د. محمد العرب

رئيس مركز العرب للرصد والتحليل

في كل خريطةٍ للتاريخ تختبئ معادلة صامتة لا يلتفت إليها الساسة إلا متأخرًا: من يملك الديموغرافيا يملك المستقبل. فالشعوب ليست مجرد أرقامٍ في إحصاءاتٍ باهتة، بل هي القوة التي تدفع الأحداث إلى وجهاتها. الجيوش تُهزم أو تنتصر، والأنظمة تقوم أو تسقط، لكنّ الاتجاه العميق الذي تسير فيه الأمم ترسمه معدلات الولادة، وأعمار السكان، وحركة الهجرة. إنّ الديموغرافيا هي 'جيولوجيا التاريخ' البطيئة التي تنحت مصيره على مهل، فيما الأحداث اليومية ليست إلا أمواجًا تتكسّر على ذلك الجبل الصامت.

في القرن العشرين، لم يكن صعود ألمانيا واليابان الصناعي وحده ما دفع العالم إلى حافة حربين عالميتين، بل أيضًا انفجار أعدادهما السكانية. فأمة شابة تبحث عن مجالٍ أوسع لحياتها واقتصادها لا بد أن تصطدم بمن يحتكر الموارد. وفي المقابل، فإن انحسار الخصوبة وشيخوخة السكان في أوروبا الغربية واليابان اليوم لا يمكن قراءته بمعزلٍ عن تراجع النفوذ والركود الاقتصادي. فتراجع عدد الشباب لا يعني قلة في العمالة فقط، بل يعني أيضًا تضاؤل الجرأة السياسية، وانكماش الطاقة الابتكارية، وتحول أولويات الدولة من المغامرة إلى الرعاية.

حتى الإمبراطوريات الكبرى لم تفلت من قبضة الديموغرافيا. فالإمبراطورية الرومانية، التي بدت في أوجها لا تُقهر، بدأت بالانهيار حين تراجعت معدلات المواليد وتناقصت القوة البشرية القادرة على ملء الجيوش والمزارع، فاضطرت إلى الاعتماد على المرتزقة والغزاة الذين تحولوا لاحقًا إلى أسيادها. وعلى العكس، كان صعود القوى الأوروبية الاستعمارية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مدفوعًا بـ'طفرة سكانية' غذّت الاستكشاف والهجرة والاستيطان.

الديموغرافيا لا تصنع التاريخ فقط، بل تحدد شروط اللعبة التي تُلعب فوقها السياسات والحروب والأفكار. فالثورة الفرنسية لم تكن لتندلع لولا تراكم ملايين الشباب الساخطين في مجتمعٍ يعاني الفقر والظلم. وللتاريخ ردّه: الأفكار الكبرى، الثورات الصناعية، والسياسات الجريئة، كلها أعادت تشكيل البنية السكانية. فعندما اخترعت البشرية اللقاحات تغيّرت معادلة الوفيات، وانفجرت أعداد السكان. وعندما انتقلت المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة تبدّلت أنماط الحياة والخصوبة. وحين فرضت الصين سياسة الطفل الواحد، أعادت رسم مستقبلها السكاني لعقود قادمة، كما تفعل اليوم بسياسات تشجيع الإنجاب لمواجهة شيخوخة تهدد اقتصادها.

الهجرة هي الوجه الأكثر ديناميكية في العلاقة المتبادلة بين الديموغرافيا والتاريخ. فالولايات المتحدة لم تصبح قوةً عظمى لأنها وُلدت كذلك، بل لأنها استقطبت ملايين المهاجرين الذين صنعوا اقتصادها وجيشها وثقافتها. وأوروبا، التي شيّدت نهضتها على الاستعمار، تجد نفسها اليوم تُعاد صياغة هويتها الثقافية والسياسية بفعل هجراتٍ معاكسة من الشرق والجنوب. إنّ كل موجة بشرية كبرى هي أيضًا موجة في مسار التاريخ.

ما نراه إذن هو تفاعل معقد: الديموغرافيا ترسم حدود الممكن، والتاريخ يختار داخل تلك الحدود أي المسارات يسلك. فهي أشبه بإطار اللوحة؛ لا يرسم المشهد لكنه يحدد فضاءه. فليست الحرب وحدها ما يصنع الأمم، بل الأرحام التي تُنجب أبناءها أيضًا. وليست الأفكار وحدها ما يغيّر العالم، بل الفئة العمرية التي تتبناها وتدافع عنها وتدفع ثمنها. إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه الدول اليوم ليس في صناعة القرار السياسي فقط، بل في قراءة خريطة أعمارها وأعدادها واتجاهات هجراتها. فمن يقرأ تلك الخريطة مبكرًا يعرف شكل المستقبل قبل أن يأتي.

من هنا، فالمعادلة الدقيقة ليست أن الديموغرافيا تصنع التاريخ أو أن التاريخ يصنع الديموغرافيا، بل إنّ كليهما يصوغ الآخر في رقصةٍ بطيئة ومعقدة. لكنّ الفارق أن التاريخ قد يخدعنا بومضاته السريعة، أما الديموغرافيا فتمسك بخيوط اللعبة على المدى الطويل. هي لا تطرق الباب، بل تغيّر شكل البيت بأكمله. ومن يفهم هذا القانون يدرك أن الحروب قد تُربح أو تُخسر في ميدان السياسة، لكنها تُحسم في نهاية المطاف في رحم امرأة، وفي قرارات عائلة، وفي سياسات هجرة. هناك، في تلك التفاصيل التي تبدو هامشية، يُكتب المصير الحقيقي للأمم.

فالديموغرافيا ليست خلفيةً صامتة للأحداث، بل هي النصّ الأصلي الذي يُعاد صياغته باستمرار. وكل من يريد أن يقرأ الغد عليه أن يبدأ من هناك: من عدد الأطفال الذين يولدون اليوم، ومن متوسط أعمار الذين سيقودون الغد، ومن موازين الهجرة التي تعيد توزيع البشر على الخريطة. عندها فقط نفهم أن ما نعدّه 'تاريخًا' ليس سوى ترجمة متأخرة لقرارٍ اتُّخذ في عمق المجتمع قبل عقود، وأن الأرحام — لا المدافع — هي التي ترسم ملامح العالم القادم.