د. طلال الحربي

تشهد المملكة تحولاً تاريخياً شاملاً تقوده رؤية 2030 الطموحة التي وضعت الأسس لمستقبل أكثر تنوعاً وازدهاراً. ولم تعد الثقافة في هذه الرؤية مجرد تعبير عن الهوية والإرث الحضاري، بل أصبحت رافداً اقتصادياً حيوياً، وقطاعاً استراتيجياً يُسهم في تنويع مصادر الدخل وبناء اقتصاد مستدام. وفي هذا الإطار، يأتي 'مؤتمر الاستثمار الثقافي' ليكون منصة محورية لتحقيق هذه الطموحات، مجسداً التحول العميق في النظرة إلى الثقافة كصناعة وإبداع واستثمار.

لم تكن رؤية 2030 مجرد خطة تنموية تقليدية، بل كانت بمثابة خارطة طريق استراتيجية أعادت تعريف مفهوم الثقافة ودورها في المملكة. فتحولت الثقافة من مجال يقتصر على الأنشطة التراثية والتعبيرية إلى قطاع منتج يسهم في الناتج المحلي الإجمالي، ويخلق فرص العمل، ويعزز المكانة الدولية للمملكة. وأدركت الرؤية أن الثراء الثقافي والتاريخي الهائل الذي تمتلكه المملكة، إلى جانب طاقتها الشبابية المتعطشة للإبداع، يشكلان رأسمالٍ غير تقليدي يمكن تحويله إلى استثمارات ملموسة ومشاريع مستدامة.

تقود وزارة الثقافة، تحت قيادة صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، هذه المسيرة التحويلية بجهود متكاملة. فمنذ تأسيسها عملت على بناء منظومة ثقافية متكاملة، بدءاً من تطوير البنية التحتية التشريعية عبر إصدار التراخيص واللوائح المنظمة، مروراً بتوفير الحوافز الاستثمارية الجاذبة، ووصولاً إلى إطلاق المبادرات المحفزة للنمو. ويُعد 'مؤتمر الاستثمار الثقافي' أحد أبرز ثمار هذه الجهود، حيث يجمع تحت سقف واحد أبرز المستثمرين العالميين، والمبدعين المحليين، والخبراء الدوليين، ليكون منصةً للحوار وتبادل الخبرات وبناء الشراكات الاستراتيجية.

لا تقتصر أهمية المؤتمر على كونه فعالية تجمع الخبراء، بل هو إعلانٌ بالغ الدلالة عن نضوج المشهد الثقافي السعودي وبدء مرحلة جديدة من الجاهزية لاستقطاب الاستثمارات المحلية والعالمية. وتؤكد الأرقام على هذه النقلة النوعية؛ فقد قفز عدد التراخيص الثقافية إلى أكثر من 9 آلاف ترخيص، وزاد عدد الجمعيات والمؤسسات الثقافية غير الربحية من 28 فقط في عام 2017 إلى 993 في عام 2024. هذه النهضة الثقافية الملموسة تخلق فرصاً استثمارية واعدة في مجالات مثل التراث، والفنون البصرية، والأدب، والنشر، والتصميم، والأفلام، والموسيقى، والمسرح.

يبرهن حضور شخصيات عالمية مرموقة مثل تشارلز ستيوارت من 'سوذبيز'، وغيوم سيروتي من 'كريستيز'، ونواه هوروفيتز من 'آرت بازل'، وتوني فينتشيكويرا من 'سوني بيكتشرز'، على المكانة المتعاظمة للمملكة على الخريطة الثقافية العالمية. إن مشاركة هؤلاء القادة في المؤتمر ليست مجرد حضور شكلي، بل هي تأكيد على الثقة بإمكانات السوق السعودي وقدرته على أن يصبح مركزاً إقليمياً وعالمياً للصناعات الإبداعية والثقافية.

من خلال جلساته الحوارية وورش عمله، سيسعى المؤتمر إلى تحقيق أهداف عدة: تحفيز القطاع الخاص على الدخول في استثمارات ثقافية طموحة، ودعم رواد الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة في المجال الثقافي، وتعزيز التكامل بين المحلي والعالمي في الصناعات الإبداعية. كما سيسلط الضوء على النماذج الناجحة محلياً وعالمياً لاستلهام الدروس وبناء شراكات تعزز من قدرة القطاع الثقافي على الإسهام في الاقتصاد الوطني.

يمثل 'مؤتمر الاستثمار الثقافي' خطوة عملية جديدة في مسيرة تحول المملكة الثقافي والاقتصادي، وهو تجسيد حي لرؤية القيادة الحكيمة وإيمانها أن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الإنسان والمستقبل. إنه يؤكد أن المملكة، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، تسير بخطى ثابتة نحو مستقبل ثقافي مشرق، يعكس أصالة الماضي، ويحقق طموحات الحاضر، ويبني إرثاً مستداماً للأجيال القادمة، تماشياً مع مستهدفات رؤية 2030.