اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٦ كانون الأول ٢٠٢٥
د. محمد المسعودي
يتشكل الاتصال المؤسسي حضورًا يبني الوعي، ويُظهر القيم، ويمنح المؤسسة طريقًا نحو المجتمع والمستقبل، ومن خلال هذا الحضور، تتجذّر الثقة، ويتسع الأثر، ويولد معنى يظل حاضرًا في ذاكرة الجمهور؛ لأن المؤسسة التي تُتقن الاتصال تُتقن بناء صورتها بوعي ومسؤولية..
يمتد الاتصال المؤسسي اليوم بوصفه أحد أهم المسارات التي تعرّف بها المؤسسات نفسها للمجتمع، وتبني من خلالها صورتها، وتُقدّم عبرها رؤيتها للإنسان والتنمية. فالمؤسسة التي تدرك قيمة حضورها تتعامل مع الاتصال باعتباره فعلًا يفتح الأبواب نحو الجمهور والمجتمع، ويمنحهم فرصة لمعرفة أفكارها ومبادراتها وأثرها في حياتهم اليومية. ومن هذا الفهم تولد علاقة يتشكل فيها الوعي، ويتقدّم عبرها الخطاب نحو مساحة تتسع للتفاعل والاحترام.
ويجد المجتمع طريقه إلى المؤسسة من خلال ما تعكسه من قيم، وما تمنحه رسائلها من وضوح، وما تتركه ممارساتها من أثر. فحين تلتزم المؤسسة بحضور قريب من الناس، ينعكس هذا القرب على الوجدان العام، ويمنحها مكانة في المشهد الاجتماعي؛ لأن المجتمع يستجيب للخطاب الذي يلامس احتياجاته، ويقدّر المواقف التي تُظهر احترامًا لوعيه وتطلعاته. وهكذا تنشأ علاقة قائمة على المشاركة في بناء المستقبل، ويصبح الاتصال مسارًا يربط بين الإنسان والمؤسسة بعمق يتجدد مع كل ممارسة واعية.
ويظهر هذا المعنى بجلاء عندما تتبنّى المؤسسات ثقافة الإصغاء. فالإصغاء ممارسة تؤسس لوعي مشترك، ويمنح المؤسسة قدرة على فهم الاتجاهات وتحديد أولويات المجتمع. وقد أظهرت التجارب الحديثة أن المؤسسات التي تفتح قنوات واضحة للتفاعل تنجح في بناء علاقات طويلة المدى. وفي أحد النماذج الدولية، استطاعت شركة GreenTech Solutions أن تُعيد تشكيل حضورها المجتمعي حين أطلقت مشروع الطاقة الشمسية في مدينة سانتا فيردي، فاختارت التواصل المفتوح مع السكان، وقدّمت لقاءات معرفية، وشرحت أثر المشروع على الحياة اليومية. ومع هذا الحضور، تحوّل المشروع إلى تجربة يتشارك الجميع في بنائها، فبرزت صورة جديدة للشركة تقوم على المشاركة والوضوح، وتعززت الثقة بين الطرفين بطريقة جعلت المشروع نموذجًا عالميًا في الاندماج المجتمعي.
ويتقدم هذا الفهم في البيئة السعودية بصورة أكثر وضوحًا، حيث تعيش المؤسسات اليوم مرحلة من التحول تعكس روح رؤية السعودية 2030، الساعية إلى تمكين الإنسان وتعزيز دوره في مسارات التنمية. ومن خلال المبادرات الاجتماعية، والمنصات الحوارية، وبرامج التمكين التي تصل إلى الشباب والمهتمين والمستفيدين، يتشكل حضور اتصالي يقوم على التفاعل ويمنح المجتمع مساحة أكبر للمشاركة. وقد أسهم هذا النهج في ترسيخ صورة أقرب للمؤسسات، وفي تعزيز الثقة التي تُعد أساسًا لأي علاقة تتطلع إلى المستقبل بوعي واستدامة.
ويمتد أثر الاتصال المؤسسي إلى داخل المؤسسة نفسها. فالموظف الذي يعيش بيئة تقدر التواصل يدرك أنه جزء من الرسالة العامة، وأن صوته يحمل قيمة في تشكيل صورة المؤسسة. ومع هذا الإدراك، تنمو ثقافة العمل الجماعي، ويتعزز الانسجام بين الفرق، وتظهر روح جديدة تدعم الأداء وتفتح المجال أمام الابتكار. وقد أثبتت التجارب أن جودة الاتصال الداخلي تسهم في خلق بيئة مهنية متماسكة، وتمنح المؤسسة قدرة على مواجهة التحديات بثبات وتوازن.
وفي لحظات الأزمات، يتقدم الاتصال بوصفه المعيار الذي يكشف نضج المؤسسة. فالمجتمع يتطلع إلى خطاب واضح، وإلى طرح يعكس فهمًا للحساسية الإنسانية، وإلى تواصل يُظهر قدرة المؤسسة على إدارة القلق العام. وحين تنجح المؤسسة في تقديم هذا الحضور، تترك في الوعي أثرًا لا يتلاشى، ويصبح خطابها مرجعًا يُستعاد عند كل موقف مشابه.
ومع تطور التقنيات الذكية، تزداد قدرة المؤسسات على قراءة اتجاهات الرأي، وتحليل أولويات الجمهور، وبناء رسائل أكثر قربًا من حاجته الفعلية. ومع ذلك، يظل العنصر الإنساني جوهر الاتصال، لأنه العنصر الذي يمنح التقنية معناها، ويضبط إيقاع الرسائل، ويُعيد توجيه الخطاب بما يحفظ قيم المؤسسة وموقعها في الوعي العام.
وهكذا يتشكل الاتصال المؤسسي حضورًا يبني الوعي، ويُظهر القيم، ويمنح المؤسسة طريقًا نحو المجتمع، وطريقًا نحو المستقبل. ومن خلال هذا الحضور، تتجذر الثقة، ويتسع الأثر، ويولد معنى يظل حاضرًا في ذاكرة الجمهور، لأن المؤسسة التي تُتقن الاتصال تُتقن بناء صورتها بوعي ومسؤولية.










































