اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣١ كانون الأول ٢٠٢٥
م. هاني الغفيلي
تحوّل مفهوم الترند من مجرد ظاهرة عابرة إلى أداة مركزية في صناعة الرأي العام، وأصبح السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم، من الذي يقود دفة هذا التأثير، هل هو الإعلام بخبرته المهنية وتاريخه الطويل، أم بصناعة الخوارزميات بوسائل تقنية بحتة تعمل خلف الشاشات، وتتحكم فيما نراه وما نتجاهله؟، وبين هذا وذاك يتشكل وعي جمعي جديد أكثر سرعة وأقل صبرًا.
لسنوات طويلة كان الإعلام التقليدي هو المرجعية الأولى لتشكيل الرأي العام، حيث تمر القضايا عبر غرف الأخبار وتخضع للتحرير والتدقيق وتقدير الأثر المجتمعي، لكن هذا النموذج اهتز بقوة مع صعود المنصات الرقمية، إذ أشار تقرير معهد رويترز للأخبار الرقمية لعام 2024 إلى أن أكثر من 67 ٪ من سكان العالم يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر الواتساب وبرامج المحادثة، هذا التحول لم يكن في الوسيلة فقط بل في منطق التأثير ذاته.
الخوارزميات بطبيعتها لا تصنع المحتوى لكنها تصنع انتشاره -وهو الأهم والأخطر حسب وجهة نظري-، فهي تقرر ما يتصدر الواجهة وما يُدفن في العمق، وفق معايير التفاعل والزمن والمشاركة والانفعال، وتشير دراسة لجامعة ستانفورد إلى أن المحتوى الذي يثير المشاعر الحادة، كالجدل والغضب والدهشة، تزيد احتمالية انتشاره بنسبة تصل إلى 40 ٪ مقارنة بالمحتوى التحليلي المتوازن، وهنا يتحول الترند إلى معادلة تقنية لا تعترف بالقيمة بقدر ما تعترف بالضجيج، ما يفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول دور التقنية في إعادة تشكيل أولويات المجتمعات.
ورغم هذا النفوذ المتنامي للخوارزميات لم يختفِ الإعلام من المشهد، بل أعاد تعريف أدواره، كثير من المؤسسات الإعلامية العالمية انتقلت من محاولة مقاومة المنصات إلى فهمها والتكيّف معها، صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال تجاوزت حاجز 10 ملايين اشتراك رقمي في 2023، مستندة إلى محتوى معمق يُوزّع بذكاء عبر المنصات، ما يؤكد أن الإعلام حين يحافظ على جوهره المهني ويطوّع أدواته قادر على المنافسة في سوق الترند، لا كملاحق بل كمبادر.
محليًا يظهر المشهد السعودي نموذجًا واضحًا لهذا التداخل بين الإعلام والخوارزميات، حيث نجحت حملات وطنية ومبادرات مجتمعية في التحول إلى ترندات واسعة الانتشار بفضل تكامل الرسالة الإعلامية الرسمية مع التفاعل الشعبي الرقمي، مواسم السعودية مثال بارز على ذلك، إذ لم تكن مجرد فعاليات بل قصة إعلامية متكاملة أعاد الجمهور إنتاجها عبر المنصات، وهو ما يعكس قدرة الرسائل المنظمة على المنافسة في فضاء يعج بالمحتوى العشوائي.
الرأي العام اليوم لم يعد يُصنع بقرار واحد ولا من جهة واحدة، بل هو نتاج شبكة معقدة من التأثيرات، الإعلام يطرح القضايا ويمنحها السياق، الخوارزميات تضخمها أو تهمشها، والجمهور يعيد تفسيرها وصياغتها وفق تجربته ومشاعره، تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2024 أشار إلى أن ستة من كل عشرة نقاشات رأي عام كبرى تبدأ كترند رقمي قبل أن تتلقفها وسائل الإعلام، لكن القضايا التي تحظى بمعالجة إعلامية مهنية تستمر في الوعي الجمعي لفترات أطول مقارنة بالترندات السريعة التي تخبو بانتهاء زخمها.
في النهاية ليست المسألة صراعًا بين الإعلام والخوارزميات بقدر ما هي اختبار وعي، من يفهم قواعد العصر الجديد ويوازن بين الجاذبية والمصداقية هو الأقدر على صناعة ترند يبقى، ورأي عام يفكر، وفي هذا التوازن تحديدًا تتحدد ملامح التأثير الحقيقي في زمن الترند.










































