اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ كانون الأول ٢٠٢٥
د. عبدالرؤوف الخوفي
كلُّ قطرة مطرٍ تُلامس التراب تُوقِظ فينا بُعدًا نائمًا، وكأنّ الحنينَ كان ينتظر هذه الإشارة ليخرج من مخابئه القديمة. لذلك حين يهطل المطر لا تبتلّ الشوارع وحدها، بل تبتلّ معها الأزمنة والذاكرة.
فمنذ البدء، كان المطر قرينَ الحياة والإياب. حيث يبدو في المخيال الإنساني كما لو كان وعد الخصب بعد القحط، واستعادة المعنى بعد النسيان. ولهذا يقول باشلار في كتابه (الماء والأحلام): 'إنّ الماء ليس عنصرًا طبيعيًّا فحسب، بل مادّة أحلام، لأنّه يُحرّك فينا صورًا مرتبطةً بالنشأة الأولى والاحتضان'. وأقول: إنّ المطر هنا ليس ظاهرةً فيزيائيّة، بقدر ما هو حدثٌ يوقظ فينا الطفولة الكامنة قبل أن تتعلّم اقتصادَ المشاعر وحسابَ الخسارات.
إنّ الحنينُ في جوهره ليس اشتياقًا إلى مكانٍ قديم، بل إلى ذاتٍ تركنا ملامحها هناك. ولعلّ المطر هو أكثرُ ما يُعيدنا إلى تلك الذات الأولى. فرائحةُ الأرض المبتلّة -ذلك العطر الأوّل- تعمل عملَ الذاكرة التي تحدّث عنها بروست في كتابه (البحث عن الزمن المفقود)؛ حيث تكفي إشارةٌ حسّيّةٌ صغيرةٌ لانهيار الجدران بين الأزمنة، وعودة الماضي حيًّا كما كان.
أمّا في ثقافتنا العربية فللمطر حضورٌ رمزيٌّ كثيف. قال امرؤ القيس:
كأنَّ ثبيرًا في عرانينِ وبلهِ
كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمَّلِ
فالمطر هنا مشهدٌ كونيٌّ مُهيبٌ تتداخل فيه الطبيعةُ بالإنسان، ويصير الوصفُ ضربًا من مشاركة الكينونة. وفي الشعر الحديث، يتحوّل المطر إلى استعارةٍ للفقد والانتظار، كما لدى السيّاب: 'عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر… مطر… مطر… مطر'. فالمطرُ صوتُ الغياب، لكنه أيضًا ينمّ عن وعد اللقاء.
وليست رائحة المطر مجرّد تفاعلٍ كيميائيٍّ لالتقاء الماء بالتراب؛ إنّها لحظةُ انبعاثٍ عملاق للذاكرة، وكأنّ الذاكرة نفسها تمتلك أنفًا خفيًّا. إذ هذه الرائحة التي يُسميها العلم البتريكور (Petrichor) تعمل كمفتاحٍ لمغاليق خزائن الزمن، وما إن تُشَمّ حتى تتداعى البيوت الطينيّة والسقوف الوطيّة.
إنّ رائحة المطر لا تقول: 'كان هنا ماضٍ'، بل تقول: 'جئتكم بالماضي إلى حيث أنتم'. إنّها تُعيد الماضي لا بوصفه صورة، بل بوصفه إحساسًا مُكتملًا حيث العالم أصغر من القلب وأقرب إلى الفهم.
فالمطر الذي يُعلّمنا كيف نعيش فلسفةً الحواس، إنّما يقول لنا: إنّ المعنى ليس دائمًا في الفكرة، بل في الرائحة، وليس في البرهان بل في التخوّض، وليس في الاستنتاج بل في بلل الثياب واتساخها. لذلك فإنّ الحنين الذي يُوقظه المطر ليس رجعيّةً وإنّما مقاومةٌ للانصهار، واحتجاجٌ على عالمٍ يريد أن يجعل كلّ شيءٍ جافًّا وسريعًا وقابلًا للاستبدال.
غير أنّ الحنين ليس بريئًا على الدوام. إنّه، كما يرى هايدغر انكشافُ الكائن على الوجود بوصفه قلقًا وسؤالًا لا ينتهي؛ إذ المطر حين يُوقظ الحنين فهو يُذكّرنا بأنّنا كائناتٌ زمنيّة، وأنّ كلّ لحظةٍ تمضي فإنّها مثل قطرةٍ لن تعود. لذلك يُوجِعنا المطر أحيانًا؛ لأنّه يُظهر وَهننا مع مرور الوقت، ويكشف أنّ العودة مستحيلة، وأنّ ما نبحث عنه ليس المكان بقدر ما هو المعنى الذي تفكك.
وعندما يرتبط المطر بوجهٍ واحد فإنّه لا يعود مُشاعًا. فقد يتحوّل إلى قلقٍ شخصيّ فنخافه لا لأنّه سيهطل، بل لأنّه سيهطل ونحن وحدنا، يقول نزار:
'أخاف أن تُمطر الدنيا ولستِ معي
فمنذ رحتِ وعندي عُقدة المطر'.
ومع ذلك، يظلّ المطرُ طقسًا للتطهير عندما يمنح الحنينَ شكلًا مُحتملًا يُعيد ترتيب علاقتنا بالحاضر، فيذكّرنا بأنّ الحياة ليست صلابةً دائمة، بل تردّدٌ جميل بين الجفاف والارتواء. وحين يهطل نتعلّم أنّ الحنين ليس ضعفًا بل حساسيّةٌ أخلاقيّةٌ تجاه الزمن، وأنّ مَن لا يُصابُ بالحنين فقد فَقَدَ قدرته على الحياة.
أحيانًا نظنّ أنّ النسيان فعلٌ إنسانيّ، وأنّ ما يُفلت من ذاكرتنا يهوي إلى العدم، لكنّ الأرض لا تُشاركنا هذا الوهم. إذ ليست الأرض صخرةً صمّاء كما نظنّ، بل ذاكرةٌ سُفليّة تحفظ ما يُلقى فيها وإن طال الغياب. فما يُزرع لا يُنسى طريقه. وفي لحظةٍ ما حين يكتمل النداء وتتهيّأ السماء تتدخّل الطبيعة بوصفها شاهدًا أخلاقيًّا على أفعالنا القديمة. فحين نعجز عن الاهتداء إلى ما بذرناه في لحظة صدقٍ بعيدة، فإنّ السماء لن تبحث عن كلماتٍ لتذكيرنا وإنّما عن زخّات مطر، 'فإذا فقدنا مكانَ بذورٍ بذرناها يومًا ما، سيُخبرنا المطرُ حتمًا بمكانها'.
لذلك لا تكون رائحة المطر مجرّد إحساسٍ عابر، بل استعارة مكتملة عن الشوق. فكما أنّ الأرض لا تُفصح عن مكامن بهجتها إلا حين تمسُّها قطرة مطر، فكذلك هو القلب لا يتكشّف إلا عند اللقاء. يقول فاروق جويدة:
'ورائحةُ الشوقِ عندَ اللقاءِ
كرائحةِ الأرضِ بعدَ المطرِ
لأنَّ حياةَ الثرى بعضُ ماءٍ
وتحيا القلوبُ ببعضِ البشر'
وفي النهاية، فإنّ المطر ليس حدث طقس عابرًا بقدر ما هو سؤال الذاكرة بعد نُضج الحنين. فمن اختار أن يسقي الجرح ازداد ألمًا. ومن اختار أن يسقي المعنى ازداد عُمقًا. وهكذا يظلّ المطرُ بين السماء والأرض معلّمَ الحنين، ورفيقَ الفلسفة في بحثها الدائب عن الإنسان عبر السنين.










































