اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
محمد الحيدر
تحول المشهد الحضري في المدن السعودية الكبرى من مساحات تجارية صرفة إلى فضاءات اجتماعية مختلطة، وفي قلب هذا التحول يترسخ 'المقهى' كمركز للثقل الثقافي والاجتماعي، هذه الظاهرة ليست مجرد استيراد لنمط عالمي، بل هي استجابة سريعة وواعية للإيقاع الجديد في البلاد، حيث يجد الشباب فيه بديلًا مرنًا عن المؤسسات الرسمية للجمع بين العمل والترفيه والنقاش، حيث يجسد هذا التكيف الحضري رغبة المجتمع في دمج الثقافة والتعليم غير المنهجي في الحياة اليومية العادية، ما يعكس تحولا جذريا في أنماط التفاعل الاجتماعي.
على الرغم من التحديات والسرعة الرقمية المهيمنة، يلاحظ نمو لافت في عدد المقاهي التي تتبنى مفهوم 'المقهى - المكتبة' أو 'الصالون الحديث'، التي تشجع على العودة إلى الكتاب المطبوع وتنظيم الأمسيات الأدبية والثقافية.
هذه الظاهرة، وإن كانت لا تمثل الغالبية، تعد دلالة قوية على وعي ثقافي متنامٍ لدى فئة الشباب تحديداً، تبحث عن العمق والسكينة المعرفية في خضم صخب التغيير والتوسع العمراني.
ويبقى هذا المزج، بين فنجان القهوة السريع وعمق الكتاب، تجسيداً لروح المرحلة الحالية، المتمثل في التمسك بالتراث المعرفي في سياق عصري ومتسارع، ومحاولة لاستعادة 'المكانة الثقافية' التي تشجع على التأمل والحوار البنّاء، بعيداً عن ضجيج المنصات الرقمية.
ومن الناحية الاقتصادية، أثبت نشاط المقاهي أنه من الأنشطة الاستثمارية الأكثر جاذبية لرواد الأعمال الشباب، نظراً لكلفته التشغيلية الأقل ومعدل دوران رأس المال السريع مقارنة بالمطاعم الكبرى، لكن يكمن التحدي الاقتصادي الجوهري في مخاطر التشبع السوقي وضمان الديمومة.
لم يعد الاستثمار الناجح يعتمد على الموقع فقط، بل على الزاوية التنافسية والإبداعية التي تقدمها المنشأة؛ والمقاهي الثقافية أو المتخصصة تنجح في تحقيق ذلك عبر بيع التجربة والمعرفة، وليس مجرد المشروب، مما يضمن ولاء العميل ويحول المقهى إلى علامة تجارية ذات قيمة مضافة تدعم اقتصاد المعرفة، فالتركيز على المحتوى المحلي والإنتاج المشترك هو ما يرسخ المقهى كركيزة للمشهد الثقافي الجديد.
في المقابل، لا يمكن الحديث عن هذا التحول دون الإشارة إلى الجوانب السلبية التي أثارت جدلاً مجتمعياً وتنظيمياً؛ أبرز هذه الجوانب هي ظاهرة التوسع العشوائي للمقاهي واحتلال الأرصفة والطرق الجانبية، مما يعيق حركة المشاة ويناقض جهود أمانات المدن في تحسين المشهد الحضري ورفع جودة الحياة، حيث يتطلب هذا الجانب تدخلاً تنظيمياً حاسماً ووضع معايير واضحة للاستفادة من المساحات الخارجية دون المساس بحقوق المشاة، بحيث لا يستحوذ التطور الاقتصادي على حرية المشاة، والجور على حساب البنية التحتية والمصلحة العامة، يضاف إلى ذلك، تصاعد أدخنة وسائل التدخين المختلفة في المساحات المفتوحة والمغلقة للمقاهي، مما يمثل تحدياً صحياً واضحاً ويناقض توجهات وزارة الصحة نحو خلق بيئة صحية خالية من التدخين في أماكن التجمعات العائلية والشبابية، مما يستدعي تعاملاً جذرياً من الجهات المختصة لحماية الصحة العامة.
خلاصة المشهد؛ يظل المقهى الثقافي في المملكة مرآة لجيل يبحث عن هويته المعرفية في عصر السرعة، ولضمان استدامة هذا الدور الإيجابي، يجب أن تترسخ التوازنات بين الاستثمار الجاذب والحاجة إلى حماية المشهد الحضري والصحة العامة، ليتحول المقهى منصة تنمية اجتماعية وثقافية مسؤولة.










































