اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٩ أيار ٢٠٢٥
ليندا إبراهيم*
في رواية «بائعة الجوز» للكاتب جمال حيدر الصادرة مؤخراً عن دار لندن للطباعة والنشر في العاصمة البريطانية٬ تناول للأقانيم الإنسانية الكبرى: الحب بكل ما يكتنفه من مشاعر، والإنسانية بطيفها الواسع الشامل، لكل ما هو جميل، ويعمل على إحياء النفس البشرية من موات الحضارة، وطغيان التوحش على روح الإنسان وإنسانيته، وبحثه الدائب عن كل ما يذكي شعلة الحب والجمال في نفسه المتعطشة لها.
جاء الاستهلال بقول للحلاج واشياً برؤية أو عمق صوفي للرواية، من حيث أن الإهداء بشكل أو بآخر قد يكون حاملاً من روح العمل، أي عمل، إلى حد كبير، ولكن هنا أستطيع تلمس مدياته من خلال بحث «أمير» اللاهث عن جوهر الحب، والذي يجعله يذوب في محبوبته حيث وجده حقاً في «ريما»، وبقي متملكاً فيه حتى آخر رمق، إلا أنه ليس ذلك الحب الصوفي العرفاني الذي يحيل إليه المقتبس من الحلاج، ومع أن الصوفية عابرة للأديان والمذاهب٬ فإننا نسجل هنا تناول الكاتب لديانتين مختلفتين «الإسلامية» و»الهندوسية» واحترامه للأخيرة.
«دخلت معبداً فقيراً٬ خلعت حذائي وقرعت الجرس٬ أنا أمير المطوق بالشك والارتياب٬ قدمت للإله عقداً من زهور القطيفة الصفراء٬ عند دخول المعابد عليك أن تقرع الجرس المذهب الصغير المعلق في مقدمة الباب قبل أن تلج٬ كأنك تستأذن الآلهة في دخول بيوتها».
في «بائعة الجوز» يعالج الكاتب كونية الحب، ويحتفي بالمشاعر الإنسانية، وإنسانية الإنسان من أي عرق كانت، وفي أي بلد وجدها، ويلقي الضوء على تلوناتها وتشعباتها في عالم امتلأ بالجشع والأنانية والاستعلاء، وطغيان الفقر والتهميش على شرائح هائلة من المجتمعات، وهو هنا يستهدف شريحة بعينها في بلد هو الهند، حيث تظهر بشكل جلي ثقافته عن بيئة الأحداث في هذا البلد، والتي تبدت واضحة من خلال وصفه للمعابد والطقوس والمعتقدات والبيئة المحلية والشعبية من لباس ومأكولات وأسماء محال وطرقات.
في هذا الشأن يفشي الكاتب في مكالمة هاتفية قائلاً: «مررت بمدنية مومباي خلال تجوالي في الهند٬ أقمت في فندق كانت هناك فتاة في ريعان شبابها تفترش الرصيف المقابل تبيع الجوز٬ ومن نافذة غرفتي كنت أراقبها ملياً٬ وأرسم صورة في ذهني عن أيامها٬ شعرت بحزنها والتعاسة التي تطوق حياتها٬ من هنا تبلورت الشرارة الأولى لشخصية الرواية٬ بالمقابل تشكلت لي٬ أنا القادم من مدينة الضباب٬ مدينة مومباي المتخمة بالاحتدامات والتفاصيل والاختلافات الحادة٬ المساحة الملائمة لسرد الرواية وأحداثها. أعتقد أن هذا التنوع الديني والعرقي بلور لي الاحتدام الدائم بين عالمين٬ وكشف لي في الوقت ذاته بعض خفايا المدينة وأماط اللثام عن أسرارها».
ترى ما الذي جعل قلب «أمير» الشاب الذي يعيش في مجتمع أوروبي ويمتلك كل مقومات دعة الحياة والرخاء والراحة والمكانة الاجتماعية والمهنية، يهوي نحو «ريما».. فتاة من الشرق من ثقافة مختلفة تماماً، فتاة في ميعة الصبا فقيرة أميّة من خلفية مهمشة من بلاد الهند٬ ويقصدها سوى الحب الذي يفتقده في حياته، صنوه الأنثوي، مكمله الأبدي؟
لعل أول ما يطفو على صفحة الذهن وأنت تقرأ العنوان «بائعة الجوز» هو هذا التناص المذهل مع أهم روائع الأدب الكلاسيكي: «بائعة الكبريت» للشاعر والأديب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن، الصادرة عام 1845، و»بائعة الخبز «للمؤلف الفرنسي كزافييه دومونتبان الصادرة عام 1889، حيث البطلتان امرأتان عانَتَا ظروف الحياة القاسية وواجهتاها بكل قسوتها، حيث المأساة الإنسانية والاجتماعية بكل تجلياتها، مع وجود جذوة للحلم والأمل لا تتوقف حتى انتهاء الأحداث بكل مأساوية، تماماً كحال بطلة رواية حيدر.
في «بائعة الجوز» لم يكن التناص على مستوى العنوان فحسب، بل على مستوى الشخصية المحورية «البطلة» بائعة الجوز الفقيرة المهملة المهمشة اليتيمة الأمية التي تقسو عليها الحياة حتى في ابنها ثمرة حبها الوحيد، وقبله فَقْدها حبيبها «أمير» لها.
في «بائعة الجوز» لا ينسى الكاتب أن يلقي الضوء على مأساة القرن وهي التطرف الديني الذي وجد له مرتعاً في نفوس الشباب المهمش المهمل الهش٬ بدفع وتحريض ودعم من جهات باتت معروفة وجلية تماما٬ مهدداً حياتنا٬ وحاصداً الأبرياء بكل وحشية. ففي فصل كامل يجسد الكاتب عملية إرهابية استهدفت مصرفاً (انفجرت الحقيبة مخلفة طنيناً مخيفاً في الأذان، ومشهداً يجمع بين النار والدم، جثم موهال على الأرض مرتعشاً، ما لبث أن رفع رأسه ليرى أجساداً ممددة على الأرض تنزف دماً، ويسمع صراخا ونحيب نساء، وتأوه رجال، لا أثر لظفر أحمد أو حقيبته، يبدو أنه تمزق بعد أن أصبح في مركز الانفجار، بعدما فشل في التعامل مع المتفجرات التي يحملها، الحارس دفعه العصف نحو الجدار ليستقر هناك من دون حراك، القمصان البيضاء المكوية بعناية تلطخت بالدماء، الزجاج الفاصل بين الموظفين والزبائن تناثر إلى قطع صغيرة اكتسحت المكان برمته، وثمة بقايا لعمود دخان أسود يتصاعد، الطنين لا يزال حاداً وموجعاً، والخراب يتوزع في كل الزوايا. رفع موهال جسده قليلاً، تطلع إليه، تحسسه، إصابة في قدمه، ثمة جرح نازف، لكن بإمكانه الهروب بالرغم من ارتجاج روحه وتشوش عقله، نهض وانتزع قدميه من الأرض، وسار خطوات نحو البوابة القريبة منه، دفع ما تبقى منها، ومضى متوجساً في الهواء الطلق باتجاه الغرفة، وهو يعرج، بينما خيط الدم كان يتبعه). ص 176
أخيراً والأهم فالكاتب ينتصر للأنثى، للأم، للأخت والجدة، للعشيقة بكونها الشخصية المحورية التي تستقطب أحداث الرواية، لكنه لا ينصفها ولو ببارقة أمل٬ فتبقى البطلة المقنِعة بأدائها وآرائها والتي يقضم الحزن والقهر والخذلان روحها٬ وليبقى الرجل النادم القادر على تغيير القدر والمساعدة لكنه لا يفعل، فيأكله الأسف والندم والخسارات العظيمة.
«بائعة الجوز» تحفر في النفس والروح عميقاً بأزاميل اللوعة والأسى بفضل أسلوب الروائي الذي طاعت له لغة السرد بأسلوب متخفف من البلاغة٬ ولكن المرشوشة بشعرية عالية في مواضع عديدة جعلتها تصل إلى قلب المتلقي وعقله٬ واستطاع بهذه اللغة استكناه جوهر النفس البشرية وما يعتمل فيها من صراعات وانفعالات ونوازع فأعطى بذلك الشخصيات حقها من المعالجة الدرامية والإضاءة والكشف وتحديداً شخصية «ريما»، وشخصية «أمير» لتنتهي الرواية على وقع مأساوي لا يملك القارئ له حلاً ولا انفراجاً٬ بل المزيد من الأسى والحزن.
«بائعة الجوز» سردية هائلة القسوة، ممعنة في الجور والظلم، في عالم أخذ طريقه إلى تهميش إنسانية الإنسان وإفراغها من مضمونها.
*شاعرة سوريّة