اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ كانون الأول ٢٠٢٥
د. سـوسن العتيبي
تتغلل سمات «الرؤية الكونيّة الغربيّة» في مفاصل الحياة الاجتماعيّة -كما ذكرها العطّاس-، ومنها: التغيّر، اللايقين، الانحصار في الآن وهنا (العالم الدنيويّ)؛ ثلاثية تطلب القيم والصلاح من كثرة التجارب، أي طلب الواجب من الواقع! إذ كل جيل يفترض متوهماً، ويخفق بعد إدراك عدم صلاح ما اختار، في دائرة تجارب مفرغة تفتقر للرشد؛ ذلك الرشد المُراد بلا قيم موجهة لليقين والثابت، ودون شاخص قائم بها (القدوة)؛ التي يفتقر الإنسان إليها منذ طفولته حتى آخر حياته، قدوة تهديه وترشده؛ لتتجلى أفعاله وأقواله وأوضاعه بأفضل إصلاح ممكن، مبرزاً هوية الإنسان الراشدة، ووفقها يرشد المجتمع، وبدونها زمِنٌ متأزّم. ولعلّ أبرز أزمات الهويّة في الغرب الحديث: أزمة الفجوات بين الأجيال، المولّدةِ لمشكلات ثلاث، أقلّها: «عبادة الشباب»، «أزمة منتصف العمر»، «جحيم الشيخوخة».
ولخاصيّة التشظّي الغربيّة، لغياب الحقيقة والقدوة والوجهة، ولتولّد التصارع؛ فقد مُزّقت الهويّات حسب تصنيف الأجيال، فلكل جيل هويته؛ قيمهُ قيمها، وقدواتهُ من حصيلة تجاربها، ونجاحاتُها وفق نمط حياة علمانيّ؛ من لم يحققها في حينها فقد الفرصة. هويّات متصارعة، قصيرة المدى، فقيرة الأثر، فضلاً عن القيمة النفعية لكل فئة في منظومة اجتماعيّة - اقتصاديّا - سياسيّا. فأسئلة «من أنا؟»، و»ما هي غايتي ووجهتي؟» تُختبر حسب كل فئة، فالشباب يختبرونها: بالتغيّر، والاندفاع، والتمرّد على قيم الآباء، ومتوسطو العمر يختبرونها: بحالة تقلّص الفائدة، والخروج من مرحلة الشباب، وكبار السنّ يختبرونها: في انعدام فائدتهم، وعبئهم على المجتمع. هي أزمات البُعد عن الرشد، وما تورّثه كثرة التجارب من خيبات وشكّ، فضلاً عن تصارع الأجيال قيمياً وتمثيلاً؛ من طامح لتحرر مطلق، إلى متحسّر على ماضٍ، مع عدم قدرته علىتزويد وإرشاد الشباب لافتقاده الرشدَ، إلى متلاشٍ ينتظر الموت. أمّا متوسط العُمر بمعيار النجاح وفق منظومة اقتصادية سياسية علمانيّة في القيادة المجتمعيّة، من جهة يعلم أنّ قيمته وهويّته مرهونة بوجوده الوظيفيّ، وبعد التقاعد يصبح طللاً وهو حيّ! هويّته هويّة أسباب عيش وخدمة، حتى التقاعد، وجحيمه دخول فترة الشيخوخة، فينبذ من الجيلين السابقين، والمؤمِّل منهم سيبقى ناظراً للشباب، عسى أن يُبعث منهم نموذجاً يُقتدى به، ويعيد للإنسانيّة رشدها، إذ كل الأحلام والآمال معقودة على فترة الشباب، فيما يشبه حالة «عبادة الشباب»؛تقديساً لتلك المرحلة من كل النواحي. إذ هم ولو حققوا طموحاتهم، وجدّوا لنشر العلمانية والتقدّم الماديّ؛ يتنافسون على المناصب والقيادات، وحياتهم في أصلها هويّة فردية لكدٍّ شخصي، لا يرى المجتمع إلا من حيث هو مجال للحصول على منصب أو ثروة أو قوّة أو شهرة، وما تدرّه من مكاسب، إذ نمّطتهم الرؤية الكونية المادية على ذلك، رغم نفاذ شعور الألم، خصوصاً مع بداية ضعف قدراتهم المادية والحيوية، وشبح الرعب من الشيخوخة يتربّص بهم، فضلاً عن الندم على اختيارات مضت. فأزمات الأجيال في الحضارة الغربيّة: أزمة الشباب: التي هي بَطر وهياج واندفاع، ومنتصف العمر: بداية خوف وقلق واضطراب، مع ذبول، والشيخوخة: اكتئاب وخروج من الحياة. إذ كلما زاد عمر الإنسان قلّت خياراته، وكثرت الحدود، وتعاظمت المسؤوليّات، وفي الحسبة المادية: قلّت الفرص! ومع ذلك ستبقى وتيرة عدم الرضى سارية بينهم. وفي الشيخوخة، وفق هذه الأزمة فالمسنّ مجرد مخلوق نُسي، ووجوده يثير الهلع لدى الأجيال الأصغر، لأنهم يشهدون فقدان القوى الجسدية والمعنويّة، فضلاً عن أمراض الذاكرة، وضعف الفعالية، والحاجة للمعين الدائم، وضمور حالة الاستقلال والانطلاق، ويبقى المستقبل في مساحة تفكير ضيقة، لا يُمكّنه ما بقي من عمره لإعداد خطط مستقبليّة، فالمسنّ نموذج للتلاشي والموت.
وفي ظنّي؛ هذه المحدودية ميزة في ثوب قشيب كرهوه؛ إذ هي من لوازم الاختيار والحريّة، فالإنسان قبل الاختيار غارق في عالم الممكنات متوهماً الكثرة، أما عالم حرية الاختيار فهو عالم القلّة؛ لاختيار واحد بين آلاف، واختياره يقيّد بمسؤولية تشكّل منعطفاً في حياته. إلا أنّ المختار هو الحرّ، لا القائم في عالم ممكنات يتوهم امتلاكها لمجرد إمكانية اختيارها دون حقيقة الوصول إليها! والاختيار منعطف يتغيّر به مسار الحياة، لأنها انتقاء مُلزم ومسؤول عنه، ومن لا مسؤولية لديه لا اختيار له، والحرّ مسؤول؛ ومن كثرت خياراته كثرت مسؤوليّاته. فمنعطف الاختيار عند التمسّك بالحريّة امتياز، وعند الطمع وحبّ الكثرة؛ سيولّد أزمات العمر.
وإصلاح هذه الأزمات لا يمكن دون إصلاح للفلسفة التي أسست المجتمع، إذ هي نتيجة وضع قواعد علمانية حاكمة للمجتمع، يكدّ معها منخرطاً في بحث دائم عن الهويّة ومعنى الحياة، في دائرة مفرغة، الإنجاز فيها كلا إنجاز، وكل جيل غير راضٍ عن قيم الحياة التي طوّرها بنفسه، وكل جيل غير كفؤٍ لغيره في الاقتداء. فضلاً عن الهويات المتأزمة المتصارعة الأخرى، وفق معيار الجنس (ذكور وإناث)، أو العرق، أو الطبقة.. وغير ذلك، لأنه تأسيس المجتمعات على الظلم.










































