اخبار تونس
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٤ أيار ٢٠٢٥
الآلاف ممن تجاوزوا 40 سنة يعيشون أوضاعاً اقتصادية صعبة بعدما فاتهم قطار الوظائف
في زوايا المقاهي الشعبية من أحياء تونس، وعلى الأرصفة أمام مكاتب التشغيل، وفي منازل مغلقة لا تزورها الفرص ولا الأمل، يعيش الآلاف من التونسيين ممن تجاوزوا الـ40 سنة وضعاً صعباً غير مستقر مهنياً ولا اجتماعياً، يعيشون حياتهم بين أحلام معلقة وواقع قاس يصعب تغييره مع مرور الوقت.
مجدي، يبلغ من العمر 42 سنة، يتحدث بنبرة هادئة لكن مثقلة بالخذلان، 'لدي شهادة جامعية في الفلسفة متزوج وأب لطفلين، أعمل عامل يومية، مرة في البناء وطوراً في حمل السلع'. وأضاف، 'كلها أعمال غير قارة أي يمكن أن أعمل يوماً وأنتظر قوت اليوم الآخر'.
وتابع الأربعيني التونسي، 'من دون فلسفة عليّ أن أعمل ومن دون توقف من أجل عائلتي'. يبتسم مجدي بحزن ويمضي في كلماته، 'أشعر أنني في عالم قدمت إليه عنوة لا أريده ولا يشبهني، حلمت أن أدرس الفلسفة في معاهد تونس وأن أعلم الأطفال كيف يفكرون لكن الواقع كان أقسى مما توقعت'.
أما أحمد البالغ 41 سنة فرفض الزواج وتحمل مسؤولية عائلة وأطفال من دون عمل، وهنا يقول بضحكة ساخرة 'أمضيت أكثر من 30 سنة وأنا أدرس. أنهيت رسالة الدكتوراه في التاريخ وحلمت أن أدرس في الجامعة لكن للأسف الواقع وأحلامنا خطان لا يلتقيان'.
وقال، 'أعمل أحياناً أستاذاً معوضاً في الجامعة لأحد الأساتذة لكن بعدما تنتهي المدة أستفيق مجدداً على واقع مرير وأعود إلى حياة البطالة والبحث عن الذات التي لا يمكن أن أعثر عليها إلا بعمل يحترم الأعوام التي أمضيتها في الدراسة'.
مجدي وأحمد ليسا بحالتين معزولتين، بل هما صورة لآلاف 'المنسيين' في سوق العمل، فئة الكهول الذين وجدوا أنفسهم خارج دائرة الاهتمام في مجتمع يتعامل مع سن الـ40 وكأنه إعلان نهاية.
أزمة صامتة
في تونس، لا توجد سياسة واضحة موجهة لفئة الكهول العاطلين من العمل، رغم أن مؤشرات البطالة الإجمالية تبقى مرتفعة. بحسب المعهد الوطني للإحصاء، بلغ عدد العاطلين من العمل في الربع الثالث من 2024 نحو 667 ألف شخص، بنسبة بطالة عامة 16 في المئة من دون توفر بيانات دقيقة ومفصلة بحسب الفئة العمرية الأكثر من 40 سنة. إلا أن بيانات رسمية تشير إلى أن نسبة البطالة بين الأشخاص الذين كانوا عاطلين من العمل لمدة تتجاوز 10 أعوام، التي تعرف بالبطالة طويلة الأمد، تتزايد بصورة ملحوظة.
بحسب معهد الإحصاء التونسي، يبلغ معدل البطالة بين حاملي الشهادات العليا نحو 25 في المئة في الربع الثالث من 2024، بينما يقدر عدد العاطلين الذين تجاوزت مدة بطالتهم 10 أعوام بنحو 60 ألف شخص، وهو ما يمثل 11 في المئة من مجموع العاطلين في البلد.
في هذا الصدد قال المتخصص في الحماية الاجتماعية بدر الدين السماوي، إن 'هذه الوضعية ناتجة أساساً عن عدم قدرة سوق الشغل على استيعاب العدد الهائل من خريجي الجامعات، بخاصة أن معدل أعمار الانتهاء من الدراسة في تونس أصبحت تراوح ما بين 25 و30 سنة، ومن ثم إذا لم يقع انتداب هؤلاء فور تخرجهم سيدخلون سن الكهولة من دون عمل'.
وأوضح السماوي أن 'قانون الوظيفة العمومية في تونس يرتكز على مبدأ التناظر أي إن كل الباحثين عن عمل مهما كانت أعمارهم تتاح لهم نفس الفرصة للتناظر ومن يتميز بالكفاءة سيكون أكثر حظاً'. لكنه أضاف، 'إلا أن هذا القانون يجب أن يتغير لأنه يمنع انتداب من تعدى سنهم 45 سنة'.
وأوضح، 'بما أننا أمام ظاهرة تفشي البطالة وسط أعمار تتعدى أحياناً 40 سنة، وأيضاً نظراً إلى تمديد سن التقاعد فيمكن إدماج هؤلاء في الوظيفة العمومية'.
من جانب آخر، يرى السماوي أنه 'ربما من أبرز المشكلات التي تعانيها هذه الفئة العمرية صعوبة الاندماج في سوق الشغل، خصوصاً في اختصاصات ترتبط بالتدريب المستمر وبالتكنولوجيا الحديثة التي تستوجب مواكبة يومية، ومن ثم فمن الطبيعي أن يطلب صاحب العمل، خصوصاً أصحاب المؤسسات الخاصة من هم أكثر مواكبة للتكنولوجيات الحديثة عكس من مر على تخرجهم أعوام من دون شغل'.
وأفاد السماوي بأن الدولة رغم صعوبة الوضع حاولت إدماج هؤلاء مجدداً من خلال بعض الآليات على غرار توظيف الأساتذة العرضيين أو محاولة إدماج الدكاترة الباحثين العاطلين من العمل. وعرج على أهمية المبادرة الخاصة وعدم انتظار الوظائف الحكومية.
وبحسب المحللين التونسيين فإن التمييز العمري يكون حاضراً بقوة في طلب الشغل إذ تميل المؤسسات إلى تفضيل الأعمار الأصغر، معتبرة إياها أكثر مرونة وأقل كلفة. أيضاً ضعف التكوين المستمر من أبرز المشكلات الأخرى التي تعترض طالبي الشغل الكهول الذين غالباً ما لا يتمكنون من مواكبة التحولات التكنولوجية والمهنية.
وصوت النواب في البرلمان التونسي على مقترح فصل إضافي لمشروع قانون مالية 2025 ينص على إحداث منصة توظيف تمنح الأولية لمن هم في وضعية بطالة لمدة تتجاوز 10 أعوام.
العزلة... أصعب من بطالة
البطالة في سن الـ40 فما فوق ليست فقط فقدان دخل مادي، بل أيضاً ضياع هوية اجتماعية، وانهيار تدريجي للثقة بالنفس. وهنا تقول منجية 45 سنة، إنها تعمل أحياناً في تنظيف المنازل بعد أعوام من البطالة القسرية.
وأضافت، 'كنت موظفة، لدي مكانة معتبرة في العائلة الكل يحترمني ويضع لي 1000 حساب لكن اليوم لم تعد العائلة تستشيرني في أمور تهمنا جميعاً وكأني قطعة أثاث في المنزل من دون شغل أو حياة خاصة.'
أما أمنية (40 سنة) فهي أم لثلاثة أطفال فتقول إنها ضحت بشهادتها التعليمية وبعملها من أجل العائلة والأطفال، مضيفة 'اليوم بعدما كبر أطفالي وجدت صعوبة كبيرة في الرجوع إلى الحياة العملية'.
تقول متخصصة علم الاجتماع صابرين الجلاصي، 'اليوم نعيش ثقافة تمجد الشباب وتهمش التجربة، وهذا يولد عند الكهول عزلة واكتئاب، وحتى إحساس بعدم الجدوى. وهو أمر خطر على الفرد والمجتمع'، مضيفة 'هذا الوضع أسهم في تفكير البعض منهم في الانتحار وإنهاء حياتهم لأنهم فقدوا الأمل'.
وأوضحت أن 'هناك فئة أخرى من هؤلاء الكهول من قرروا تحمل المسؤولية وتزوجوا رغم عدم الاستقرار في العمل وهذه الفئة أيضاً تعيش ألماً مضاعفاً'، مضيفة 'ألم عدم الاستقرار في العمل والتخلي عن الحلم في إيجاد عمل يتلاءم وشهاداتهم العلمية، وألم ضرورة العمل مهما كان نوعه لتوفير لقمة عيش العائلة'.
وتواصل الجلاصي حديثها بالقول، 'جيل عاش تحولات تونس السياسية والاقتصادية والاجتماعية. اليوم يواجه عزلة قاسية ما بين دولة غائبة، وسوق شغل قاسية، وثقافة اجتماعية لا ترحم... الكهول العاطلون عن العمل يتركون لمصيرهم'.
بارقة أمل
من رحم الحاجة يولد الأمل ورغم هذا الواقع المرير، تولد قصص مقاومة تبعث الأمل في حياة أفضل. ففي محافظة سيدي بوزيد جنوب تونس، أطلق مراد 48 سنة مشروعه الخاص في تربية النحل.
يقول مراد، 'طيلة حياتي اشتغلت موظفاً في شركة خاصة لكن بعد غلقها إثر أزمة انتشار وباء كورونا رجعت إلى النقطة صفر وشعرت أنني انتهيت. اليوم، النحل علمني العودة إلى الحياة مجدداً وعلمني أيضاً أن أكون مواطناً وإنساناً منتجاً وفاعلاً في الاقتصاد وليس مجرد موظف لا حول ولا قوة له'.
مع قصة مراد يبقى الأمل الطريق الوحيد الذي قد يعيد هذا الجيل إلى الحياة المهنية الناجحة لكن تبقى قصته استثناء وليست قاعدة.