اخبار تونس
موقع كل يوم -جريدة الشروق التونسية
نشر بتاريخ: ٢٠ أيار ٢٠٢٥
قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية ميلود ولد الصدّيق في حديث خاص ل'الشروق'، إن شمال افريقيا اصبح في قلب مشاريع التفكيك و إعادة البناء، مضيفا أن دول شمال افريقيا تدفع ثمن عدم وجود اتحاد مغرب عربي.
حوار: بدرالدّين السّياري
كيف تقرأ الوضع العام في دول شمال إفريقيا؟
الواقع أن الوضع في شمال إفريقيا يعكس لوحة جيوسياسية معقدة تتداخل فيها التحديات الداخلية مع الاستراتيجيات الإقليمية والدولية. المنطقة تمرّ بمرحلة مفصلية تتسم بصعود التهديدات الأمنية العابرة للحدود، وتراجع فعالية الأطر التكاملية مثل اتحاد المغرب العربي. أضف إلى ذلك أن المنطقة تمثل جسراً بين إفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا، ما يجعلها مسرحاً لصراعات نفوذ بين قوى دولية كبرى، وهو ما يخلق ضغوطاً إضافية على السيادة الوطنية للدول المغاربية. وبالتالي، فإن الوضع العام يمكن وصفه بأنه 'مفتوح على كل الاحتمالات'، بين سيناريوهات التفكك ومشاريع إعادة البناء.
هل بات شمال إفريقيا محاصرًا بالأزمات والاستهدافات؟
نعم، يمكن القول إن شمال إفريقيا أصبح بالفعل محاصَراً بما يمكن تسميته بـ'حزام أزمات'، يمتد من ليبيا شرقًا إلى موريتانيا غربًا، ويتصل جنوبًا بدول الساحل التي تشهد بدورها تصاعداً في التهديدات الإرهابية، الانقلابات العسكرية، والجماعات المسلحة العابرة للحدود. هذا الحزام يخلق بيئة خصبة لتفاقم الأزمات البنيوية داخل الدول المغاربية، سواء من خلال تسلل الإرهاب، أو من خلال استغلال هشاشة الحدود لتعزيز شبكات الجريمة المنظمة وتجارة البشر والمخدرات.
أما من حيث الاستهدافات، فإن هناك بُعدًا استراتيجيًا في استهداف استقرار هذه المنطقة، ليس فقط من قبل فاعلين محليين، بل أيضاً من قبل قوى إقليمية ودولية تسعى إلى إعادة رسم التوازنات الجيوسياسية لصالحها، إما من خلال التدخلات المباشرة، أو عبر دعم وكلاء محليين، أو عبر آليات الضغط السياسي والاقتصادي. النتيجة هي بيئة غير مستقرة تتطلب مراجعة شاملة لمفهوم الأمن القومي المغاربي، الذي لم يعد بإمكانه التوقف عند الحدود الوطنية الضيقة.
ما هو الغرض من تفتيت دول شمال إفريقيا واستهداف أمنها القومي؟
تفتيت دول شمال إفريقيا هو جزء من مقاربة جيوسياسية أوسع تروم إلى إعادة هيكلة الفضاء المتوسطي ـ الإفريقي بما يخدم مصالح قوى دولية تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها. الهدف ليس فقط تفكيك الدولة الوطنية، بل أيضاً إضعاف الإرادة السياسية الجماعية التي قد تنتج عن تكامل مغاربي حقيقي. في هذا السياق، يُنظر إلى الأمن القومي المغاربي كعقبة أمام مشاريع التوسع والهيمنة الاقتصادية أو العسكرية أو حتى الثقافية لبعض الفاعلين الخارجيين.
كما أن استهداف الأمن القومي يُترجم عبر اختراقات ناعمة (كالدعم الإعلامي والتمويل الخارجي لبعض الجماعات)، وأخرى صلبة (كالتدخلات العسكرية أو تغذية النزاعات الحدودية)، والهدف النهائي هو منع تشكّل محور مغاربي مستقل يربط بين الشمال الإفريقي وعمقه الاستراتيجي في الساحل وغرب إفريقيا، وهو ما تشتغل عليه الجزائر في مقاربتها الدبلوماسية والأمنية.
ماذا وراء اللعبة الإقليمية والدولية في ليبيا؟
ليبيا أصبحت تمثل رقعة شطرنج مفتوحة أمام تقاطع أجندات محلية وإقليمية ودولية. داخليًا، تشهد البلاد انقسامًا بين سلطتين متنافستين، ما خلق فراغًا مؤسساتيًا يُستغل من قبل ميليشيات وجماعات مسلحة. إقليميًا، هناك قوى تسعى إلى تثبيت نفوذها في ليبيا كممر استراتيجي نحو إفريقيا، وكسوق واعدة للنفط والإعمار، بينما تنظر إليها بعض الدول كمجال لتوسيع نفوذها الجيوعسكري عبر قواعد بحرية أو برية.
دوليًا، تتصارع قوى كبرى على النفوذ، كلٌ حسب مصالحه: روسيا تسعى لتمركز استراتيجي، والولايات المتحدة تحاول تحجيمه؛ فرنسا تتابع تطورات الساحل وتراهن على ليبيا كورقة تفاوض؛ وإيطاليا تركز على ملف الهجرة والطاقة. بالتالي، فإن اللعبة الليبية ليست سوى انعكاس لصراع القوى على خريطة النفوذ الجديدة، وهو ما يعقّد فرص الحل ويجعل من ليبيا قنبلة موقوتة في قلب شمال إفريقيا.
ما المأزق أو التهديد الذي يمثله عدم استقرار ليبيا للجزائر وتونس؟
غياب الاستقرار في ليبيا يشكل تهديدًا مزدوجًا لكل من الجزائر وتونس. بالنسبة للجزائر، فإن الحدود الطويلة مع ليبيا تمثل مصدر قلق دائم، خصوصًا مع تنامي تهديد الجماعات الإرهابية والتهريب العابر للحدود. كما أن استمرار الانقسام الليبي يعطل جهود الجزائر في تحقيق توازن إقليمي قائم على الاستقرار والسيادة.
أما بالنسبة لتونس، فإن التأثير أكثر حساسية، لعدة أسباب، منها التدفق غير المنظم للهجرة، تراجع المبادلات الاقتصادية، ووجود خلايا نائمة يمكن أن تتسلل عبر الحدود الليبية. كما أن غياب ليبيا كفاعل سياسي فاعل يخلق فراغًا على مستوى المبادرات المغاربية، ويضعف القدرة الجماعية على مواجهة التحديات المشتركة.
من منع ويمنع قيام التحالف الثلاثي الجزائري التونسي الليبي؟ ولماذا؟
التحالف الثلاثي هو فكرة موضوعية واستراتيجية بالنظر إلى التقارب الجغرافي والمصالح المشتركة، غير أن تحقيقه يواجه عدة عراقيل. أولاً، الانقسام الليبي الداخلي يمنع وجود شريك مستقر يمكن البناء عليه. ثانيًا، هناك قوى إقليمية لا ترغب في قيام محور مغاربي مستقل قد يعرقل مشاريعها التوسعية، وبالتالي تعمل بشكل غير مباشر على تخريب كل بوادر التقارب.
ثالثًا، غياب رؤية سياسية مغاربية موحدة، واستمرار الارتهان لبعض الأجندات الخارجية، يعطل قيام تحالفات استراتيجية نابعة من إرادة داخلية. التحالف الثلاثي بحاجة إلى إعادة صياغة المشروع المغاربي من منظور أمني وتنموي مشترك، وليس فقط كمجرد إطار سياسي.
هل تدفع دول شمال إفريقيا اليوم ثمن عدم وجود اتحاد مغرب عربي حقيقي؟
بالتأكيد. غياب اتحاد مغرب عربي فاعل هو أحد الأسباب البنيوية لضعف الدول المغاربية في مواجهة التحديات الحالية. هذا الغياب يُفقد المنطقة كتلة تفاوضية قوية إزاء الفاعلين الدوليين، ويُضعف قدرتها على التنسيق الأمني ومجابهة المخاطر المشتركة، سواء في ملف الإرهاب، الهجرة، أو التنمية.
كما أن غياب الاتحاد سمح بتعزيز التدخلات الخارجية في الشأن المغاربي، وسهّل تفكيك الروابط الطبيعية بين شعوب المنطقة. في حين كان من الممكن أن يكون الاتحاد إطارًا فعالاً لتفعيل التعاون الاقتصادي والتنموي، وتحقيق الأمن الجماعي.
كيف يمكن للجزائر وتونس خاصة إحباط المؤامرات التي تحاك ضدّهما معًا أو كل دولة على حدى؟
الردّ يجب أن يكون أولاً عبر بناء تحالف استراتيجي ثنائي شامل، لا يقتصر على التنسيق الأمني، بل يشمل كذلك التعاون الاقتصادي، والتكامل في مجالات الطاقة، الغذاء، الرقمنة والتعليم. كما أن التنسيق الدبلوماسي المشترك في المحافل الدولية يمكن أن يُحدث توازنًا جديدًا في موازين القوى الإقليمية.
ثانيًا، يجب الاستثمار في تحصين الجبهة الداخلية من خلال تقوية المؤسسات، تعزيز العدالة الاجتماعية، وبناء عقد اجتماعي جديد يقطع مع التهميش والفساد. المؤامرات الخارجية لا تجد لها بيئة حاضنة إلا في ظل هشاشة الداخل.
أخيرًا، ينبغي إعادة صياغة العقيدة الأمنية الجزائرية ـ التونسية لتقوم على 'الأمن الإقليمي المشترك'، بما يعني أن تهديد أمن تونس هو تهديد لأمن الجزائر والعكس بالعكس، وهو ما يستدعي سياسات وقائية واستباقية، تنبع من وعي استراتيجي مشترك وليس من ردود فعل ظرفية.