السبيعي: الأفلاج موطن التاريخ والإبل من نقوش الفاو إلى المدينة الصناعية

تمضي الأفلاج، الواقعة جنوب العاصمة الرياض، على سنام المجد منذ آلاف السنين، محافظةً على إرثها التاريخي ومكانتها الجغرافية، لتكتب اليوم فصلاً جديدًا في سجل علاقتها العريقة بالإبل، مع تدشين مشروع المدينة الصناعية للإبل، كأحد أكبر المشاريع الوطنية المتخصصة في صناعة وتربية الإبل.

وقد شكّلت الأفلاج منذ القدم معبرًا إستراتيجيًا على طرق القوافل، وموطنًا لأشهر سلالات الإبل النادرة، لاسيما “المجاهيم”، التي تنفرد بها، وتشهد منصات التتويج بحضور أبنائها في المهرجانات الكبرى للإبل.

وحول هذا الارتباط التاريخي العميق، تحدث لـ'سبق' الباحث التاريخي فهد بن سعد بن ثلاب السبيعي، قائلًا:

'في قلب الجزيرة العربية، وتحديدًا في محافظة الأفلاج، تنبعث من الرمال قصة عريقة تمضي على سنام الجمال، قصة بدأت منذ آلاف السنين، وتستمر اليوم مع تدشين المدينة الصناعية للإبل، كواحدة من أضخم المبادرات الوطنية لصناعة الإبل والاهتمام بها.

لكن قبل كل هذه المنجزات، كانت الأفلاج أرضًا تحنو على الإبل، وتفخر بها، وتروي عنها حكايات من فجر التاريخ.'من صيد الفاو إلى استئناس قوم عاد

وتابع: تشير النقوش الأثرية في مدينة الفاو، الواقعة على بعد 300 كلم جنوب الأفلاج، إلى أن الإبل كانت جزءًا من الحياة البرية قبل آلاف السنين، وكان الإنسان يصطادها للبقاء. هذه النقوش لا تمثّل صورًا فقط، بل دلائل على أقدم علاقة بين الإنسان والإبل في شبه الجزيرة.

ومع مرور الزمن، تطوّرت العلاقة من الصيد إلى الاستئناس، ويشير القرآن الكريم إلى استئناس الإبل في عهد قوم عاد، والذين ثبت تاريخيًا أن موطنهم كان في منطقة الأفلاج. يقول الله تعالى:

{أمدّكم بأنعامٍ وبنين}، والأنعام كثيرًا ما يُقصد بها الإبل، وفي آية أخرى:

{ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها}، في تلميح إلى تمكين الإنسان من ترويض الإبل، مما يعكس قدم العلاقة بين الإنسان والإبل في هذه الأرض.الأفلاج.. طريق القوافل ومهد القصواء

وأضاف: شكّلت الأفلاج معبرًا إستراتيجيًا للقوافل القادمة من عُمان واليمن إلى الشام والعراق، وعبر أراضيها سارت قوافل البخور واللبان، وعلى ظهور الإبل تجشّم العرب صعاب الصحراء في رحلاتهم التجارية الطويلة.

ومن الأفلاج أيضًا، انطلقت قصة 'القصواء'، ناقة النبي محمد ﷺ، التي اشتراها من بني قشير من بني عامر – إحدى قبائل الأفلاج – بمبلغ أربعمائة درهم.

وكانت شاهدة على الهجرة، والفتح، واختيار موضع المسجد النبوي، وماتت بعد وفاة النبي ﷺ بـ18 يومًا، في مشهد مؤثر، عكس عمق العلاقة بينه وبين ناقته.من سروج القتال إلى ميادين الإنقاذ

وأردف حديثه قائلًا: من بين المواقف التاريخية المرتبطة بإبل الأفلاج، أن أُميّة بن خلف – رغم كفره – اشترى جملين من بني قشير (من الأفلاج) للهروب من معركة بدر، لما عُرف عن إبلهم من القوة والسرعة، ما يؤكد جودة هذه السلالات حتى في الجاهلية.

كما تُذكر في هذا السياق بطولة القبابنة من أهل الأفلاج عام 1319هـ، حين واجهوا جيش ابن رشيد قرب الرياض، وتأخر الزحف نصف يوم بفضل شجاعتهم. وفي لحظة حاسمة، انطلق الفارس مطلق بن ناصر القباني على ناقته النجيبة إلى الرياض، ليُبلغ الإمام عبد الرحمن بن فيصل بالخطر، فأمر بإشعال النيران، وأُحبط الهجوم قبل وقوعه.

لقد أنقذت ناقة، بركابها، مستقبل العاصمة.المجاهيم.. سلالة الأفلاج التي تتصدر المشهد

وتابع: تُعد الأفلاج موطنًا لسلالة نادرة من إبل المجاهيم، وتمتاز بجمالها وقيمتها العالية. وقد حازت ناقة 'فزّاعة' من الأفلاج المركز الأول على مستوى الجزيرة في أحد مهرجانات الجَمال، لصاحبها حسن بن شايع الشكرة.

وقد انطلقت من الأفلاج أصول سلالات أثبتت تفوقها في الميادين، ويكفي أن منصات التتويج في مهرجانات الإبل تشهد سنويًا فوز أبناء الأفلاج في أشواط 'الجل' و'الجمل'، مما يعكس الريادة التاريخية في إنتاج الإبل.

ووصلت أسعار بعض فحول الأفلاج إلى ملايين الريالات، تأكيدًا على مكانتها كمهد اقتصادي وثقافي لصناعة الإبل.الربيع يبدأ من الأفلاج.. ويُزهر معها الموروث

وأكد قائلًا: تُعد الأفلاج وجهة سنوية لملاك الإبل بعد نهاية موسم الربيع في الشمال، إذ تبقى أرضها خضراء ومرعاها خصبًا، ويقصدها أهل الإبل من مختلف مناطق المملكة.

وقد قال الشاعر صقر الحنتايش مفتخرًا بمرابعها:

أنا وين بلقى فاطرٍ زينة الدفلاج

إيلا درهمت لكن لدمي تحاليها

ابنحر فريقٍ ربعوا يمة الأفلاج

أهل إبلٍ جنبها دايم يباريهاختامًا.. مدينة صناعية ترسخ عمق العلاقة

واختتم: جاءت الموافقة على تخصيص أرض مساحتها 15 مليون متر مربع لإنشاء مدينة صناعية للإبل في الأفلاج، لتكون تتويجًا لعلاقةٍ تمتد آلاف السنين.

إنها ليست مدينة للإنتاج فحسب، بل قصة وطن تُروى برمال الأفلاج وصوت الرُكبان.

فهنا لا تُذكر الأفلاج إلا وتُذكر الإبل، ولا تُذكر الإبل إلا ولها في الأفلاج فصول من المجد، وسطور من الوفاء، وسُهوب من الخُضرة والماء.