اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة البلاد
نشر بتاريخ: ٢٩ أيلول ٢٠٢٥
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية مساعدة، بل أصبح قوة تغيير جوهرية تُعيد تشكيل طبيعة العمل في المؤسسات، لا سيما على مستوى الإدارة الوسطى. لم تعد المهام التي تتطلب التنسيق والإشراف والمتابعة حكراً على المديرين، فقد بات بإمكان الموظفين الميدانيين القيام بها بكفاءة وسرعة بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي توفّر لهم دعماً لحظياً ومباشراً دون الحاجة إلى الرجوع المتكرر إلى مدير أو مشرف.
لقد شهدنا خلال السنوات الثلاث الماضية تحوّلاً غير مسبوق في طريقة أداء الأعمال، وبدأت تتجلى ملامح هذا التغيير في الهياكل التنظيمية للمؤسسات. فالأدوار التقليدية للإدارة الوسطى، التي كانت تقوم على المتابعة اليومية والتوجيه وتنظيم العمل، باتت مهددة بالتقلص وربما الزوال في بعض الحالات. فمع توفر أدوات ذكية قادرة على تخطيط المهام، ومتابعة الأداء، وتقديم الحلول، أصبح من الممكن تقليل الحاجة إلى أدوار إشرافية متعددة والاكتفاء بعدد أقل من المديرين الأكثر فاعلية ومرونة.
وقد قادني ذلك إلى مقال قرأته منذ فترة بعنوان'كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل أدوار الإدارة” للباحث مانويل هوفمان، حيث استعرض نتائج دراسة أجراها مع فريقه في كلية الأعمال بجامعة هارفارد. تابعت هذه الدراسة أكثر من خمسين ألف مطور برمجيات على مدى عامين، منهم من استخدم أدوات ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في أداء عملهم، ومنهم من لم يستخدمها. وقد أظهرت النتائج أن الذين استخدموا هذه الأدوات تمكنوا من التركيز على المهام الفنية الأساسية بشكل أكبر، في حين تراجعت نسبة الوقت المخصص منهم لمهام الإدارة والتنسيق بشكل ملحوظ.
ولم يكن هذا فقط نتيجة تسريع العمل، بل لأن الذكاء الاصطناعي أتاح لهؤلاء الأفراد العمل باستقلالية أكبر، ما قلّل من حاجتهم للتنسيق الجماعي أو التوجيه المستمر من المديرين. كما أظهرت الدراسة أن الموظفين الأقل خبرة استفادوا من الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر من زملائهم الأكثر كفاءة؛ إذ تمكنوا من سد الفجوات المعرفية والتعلم الذاتي بشكل أسرع، وهو ما خفف العبء عن المديرين في جانب التوجيه والتدريب.
إن هذا التحوّل يفتح الباب أمام ما يُعرف بتسطيح الهيكل التنظيمي، حيث يمكن تقليل الطبقات الإدارية دون الإخلال بالكفاءة أو الجودة. فالمدير لم يعد فقط موجّهًا أو منسّقًا، بل بات مطالبًا بأن يتحوّل إلى شريك في العمل ومساهم في الإنتاج، وقادر على الابتكار وتحسين العمليات بدلًا من الانشغال بالتفاصيل اليومية.
لكن هذا التغيير لا يمكن أن يتم من خلال تغيير الهيكل الإداري فقط، بل لا بد من الإجابة على سؤالين أساسيين: ما المهام التي يجب أتمتتها؟ ومن المستفيد الحقيقي من هذه الأتمتة؟ فنجاح هذا التحول يتطلب فهماً دقيقاً لطبيعة العمل، وتحليلًا صادقًا لاحتياجات الموظفين، وفريقًا إداريًا واعيًا لا يخشى إعادة تعريف دوره بما يخدم مصلحة المؤسسة.