اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
لندن- 'الرياض'
تحوّل القطب الشمالي خلال السنوات الأخيرة من فضاء جغرافي بعيد تغطيه الثلوج إلى ساحة صراع مفتوح بين القوى الكبرى، بعدما تصاعدت وتيرة التحركات العسكرية والاقتصادية فيه، لتصبح المنطقة المتجمدة أكثر مناطق العالم سخونة سياسياً واستراتيجياً.
ورغم قساوة المناخ وصعوبة التضاريس، فإن ما تختزنه أراضي القطب ومياهه من ثروات طاقية ومعدنية وممرات بحرية جديدة جعل منه مسرحاً للتنافس المحموم بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، ومركزاً لاهتمام دولي غير مسبوق.
تُظهر بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن القطب الشمالي يضم نحو 13% من احتياطات النفط غير المكتشفة في العالم وأكثر من 30% من الغاز الطبيعي، إلى جانب كميات هائلة من المعادن النادرة مثل الكوبالت والنيكل والبلاديوم، تُقدّر قيمتها بتريليون دولار.
ومع استمرار ذوبان الجليد بفعل التغير المناخي، ظهرت ممرات بحرية جديدة تقلّص المسافة بين آسيا وأوروبا بنحو 40%، ما حول المنطقة إلى شريان تجاري بديل يهدد مكانة الممرات التقليدية كقناة السويس والمحيط الهندي.
تتعامل بكين مع القطب الشمالي كامتداد طبيعي لمشروعها الاقتصادي العالمي المعروف بـ”الحزام والطريق”، وتسميه في وثائقها الرسمية “طريق الحرير الجليدي”.
وتسعى الصين من خلاله إلى تأمين مصادر المعادن النادرة، التي تمثل العمود الفقري لصناعاتها التقنية، كما ترى في الممرات القطبية فرصة لتقليص كلفة النقل والسيطرة على سلاسل الإمداد بين آسيا وأوروبا.
وفي عام 2018، نشرت بكين كتابها الأبيض بعنوان “الصين دولة قريبة من القطب الشمالي”، مؤكدة حقها في المشاركة في رسم مستقبل المنطقة الجليدية واستثمار مواردها، وهو ما أثار قلقاً متزايداً لدى واشنطن وحلفائها.
تُقارب واشنطن القطب الشمالي من منظور أمني واستراتيجي بحت، إذ ترى فيه موقعاً حيوياً لمراقبة النشاط الروسي، ومنفذاً لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي في الشمال.
وفي عام 2024، حدّد البنتاغون في نسخته المحدثة من “استراتيجية القطب الشمالي” خطة لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي، تشمل تحديث قاعدة ثول الجوية في غرينلاند، وتوسيع المناورات المشتركة مع النرويج والدنمارك، ونشر أكثر من 250 طائرة مقاتلة حديثة بحلول عام 2030.
كما تسعى واشنطن إلى ضمان حرية الملاحة في الممرات الجليدية الجديدة، تحسباً لأي تحكم روسي أو صيني فيها مستقبلاً.
من جانبها، ترى موسكو أن القطب الشمالي امتداد طبيعي لسيادتها الجغرافية ومصدر رئيس لاقتصادها الوطني، إذ تمتلك أطول سواحل مطلة على الدائرة القطبية بطول يتجاوز 24 ألف كيلومتر، وتسهم موارده بنحو 15% من الناتج المحلي الروسي.
وخلال السنوات الماضية، أعادت روسيا تأهيل سبع قواعد عسكرية وأنشأت ثلاثاً جديدة مزودة بمنظومات الدفاع الجوي المتطورة “إس-300” و”إس-400”، إلى جانب نشر غواصات نووية في شبه جزيرة كولا لتعزيز سيطرتها على الممرات القطبية.
وتعتبر موسكو أن أي وجود غربي في المنطقة هو تهديد مباشر لأمنها القومي، وهو ما يفسر استعراضها المستمر للقوة من خلال مناورات بحرية وجوية مشتركة مع الصين.
ورغم تصاعد وتيرة التسلح، لا يرى الخبراء أن المنطقة مقبلة على مواجهة عسكرية مباشرة، بل على سباق نفوذ بارد يهدف إلى تثبيت الحضور وتحسين شروط التفاوض على الموارد والممرات البحرية.
فروسيا المنهمكة في حربها الأوكرانية، والصين المنشغلة بترسيخ تفوقها الاقتصادي، والولايات المتحدة التي توازن بين الردع والاحتواء؛ جميعها تدير الصراع في القطب بأدوات السياسة والاقتصاد أكثر من أدوات الحرب.
يتفق المراقبون على أن القطب الشمالي بات اليوم نقطة التقاء بين الاقتصاد والطاقة والسياسة الدولية، وأن من يملك النفوذ فيه سيحظى بموقع متقدم في تشكيل النظام العالمي الجديد.
ومع استمرار ذوبان الجليد وتزايد شهية الدول الكبرى للموارد النادرة، يبدو أن “الحرب الباردة الجديدة” لن تدور هذه المرة حول برلين أو بحر الصين الجنوبي، بل تحت الثلج في القطب الشمالي، حيث تُكتب فصول التوازنات العالمية المقبلة.










































