اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٥ أيلول ٢٠٢٥
د. نجوى الكحلوت
حين يمرّ القارئ بقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ الرعد:15، تتجلّى أمامه صورة بلاغية مدهشة، تجعل من ظاهرة طبيعية مألوفة آيةً شاهدة على خضوع الكون لله.
يتبادر للذهن سؤال: هل يسجد الظل؟ السجود في أصل اللغة هو الخضوع والانقياد، وأعظم صوره أن يضع الساجد جبهته على الأرض. غير أنّ القرآن يوسّع الدائرة ليشمل بالسجود كلّ كائنٍ في الكون، حتى الجماد والظلال. فالسجود هنا ليس بالضرورة سجود الأجساد، وإنما هو سجود الوجود بأسره في نظامه، وخضوعه لناموس الله.
انظر إلى الظلّ وهو يتمدّد مع إشراق الشمس، ثم ينكمش مع ميلها للأفول، وتراه يتقلب من حالٍ إلى حال، لا يملك لنفسه ثباتًا ولا اختيارًا. هذه الحركة المستمرة صورة دقيقة للسجود، إذ فيها انقيادٌ لقانونٍ أعلى. فكأن الظلّ ينحني مع كل ميلٍ للشمس، ويرفع رأسه مع كل طلوعٍ جديد، لا يملك إلا الطاعة.
وهذا المشهد العظيم يأخذنا إلى تأمل بلاغة التصوير القرآني، فقد جعل الظلال ساجدة، وهذا من أبدع المجازات التصويرية: فالظلّ في حقيقته لا يملك عقلًا ولا إرادة، لكنه يُجسَّد في الآية وكأنه كائن واعٍ يؤدي سجوده في أوقات محددة: الغدو والآصال، أي أول النهار وآخره. وهذا الإسناد البلاغي يخلق مشهدًا حيًا: عالمٌ صامت يُنطق، وظلالٌ ممدودة تتحول إلى صفوف ساجدة.
دلالة السجود الكوني تعلّمنا أن الكون بأسره خاضع لله، وأنّ السجود معنى كوني شامل، فسجود الإنسان عبادة طوعية، وسجود الظل انقياد قدري. وبهذا يجتمع في القرآن السجود الطوعي والإجباري، ليؤكد أن كل ما في السماوات والأرض عبدٌ لله، ظاهرًا أو باطنًا.
حين نتأمل ظلالنا التي ترافقنا، ندرك أنها في كل انحناءة وانبساط تذكّرنا بأننا أيضًا خُلقنا للسجود، وأن أجمل ما في حياتنا أن ننحني بإرادتنا -حبًا وطاعةَ لله- حيث ينحني الكون كله قسرًا.