اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٥ كانون الأول ٢٠٢٥
طارق محمود نواب
في كل عصرٍ نهض شعراء كبار أمثال، امرؤ القيس، زهير، النابغة، طرفة، عنترة، أبو تمام، البحتري، بشار، المعرّي،
أسماء تتقدم كالأعمدة التي تُمسك سقف اللغة. ومع ذلك يبقى المتنبي كأنه العمود الذي لا يستند إلى شيء، العمود الذي يسند نفسه بنفسه، كأنه جبلٌ وُضع في مكانه بقرار داخلي لا بيد الطبيعة.
لم يتفوّق لأنه أفصحُهم، ولا لأنه أعمقُهم، بل لأنه ببساطة أدرك سرًّا لا يُدركه إلا القلّة، أن الشاعر الحقيقي لا يكتب العالم، بل يكتب «تفسيره الشخصي للعالم»، ويحول القصيدة إلى مرآة يرى القارئ فيها نفسه… لا الشاعر فقط.
فالآخرون وصفوا الوجود، أما هو فحاور الوجود. الآخرون نظّموا الكلمات، أما هو فاختبر حدودها حتى تشققت بين يديه وخرج منها ضوء جديد. الآخرون قدّموا صوتًا للعصر، أما هو فقد صنع صوتًا يتجاوز العصر، صوتًا يشبه الحقيقة حين تتكلم بلا شاهد.
ففي قصائد امرئ القيس نرى الخيال، وفي زهير نرى الحكمة، وفي النابغة نرى السياسة، وفي عنترة نرى الفروسية، وفي أبي تمام نرى المعنى، وفي البحتري نرى الجمال، وفي المعرّي نرى الفكر، لكن في المتنبي نرى «محاولة الإنسان أن يكون أكبر من نفسه»، حيث نرى الكلمة وهي ترتفع درجةً بعد درجة، كأنها تصعد سلّمًا لا نرى قمّته، وكأنها تبحث عن كونٍ لم يُفتح بابه بعد. فقد كانت قصيدته ليست نصًا… بل كائناً حيًا. يتنفس، يتحدى، يجادل، يشك، يؤمن، يسقط، ينهض… كأنه نسخة لغوية من صراع الإنسان مع مصيره. وكأن كل بيتٍ فيه يُراجع حكمة الكون، ويضع أمامنا سؤالًا لا يريد جوابًا… بل يريد وعيًا.
لذلك أصبح المتنبي «نظرية» أكثر منه «شاعرًا»، نظرية تقول: إن اللغة ليست أداة… بل مصير. وإن الكبرياء ليس مطلبًا… بل طريقة في فهم الحياة. وإن المعنى لا يُعطى… بل يُنتزع من صخر الوعي. وإن الإنسان لا يكتب ليُقرأ
بل يكتب ليعرف نفسه حين تضيق بها الدروب. ولهذا تفوّق على الجميع، لأن الآخرين بقوا في حدود الفن، وبقي هو في حدود الفلسفة، لأنهم كتبوا ليبقوا شعراء، أما هو فكتب ليبقى معنى. فالآخرون كتبوا القصيدة، أما هو، فقد كتب تجربة الإنسان حين يطالب الحياة بمعاملةٍ عادلة، حين يرفض أن يعيش صغيرًا، وحين يصرّ على أن تكون الكلمات بيوتًا للروح لا زينة للمتلقي.
فالمتنبي لم يكن شاعرًا، كان مشروعًا لفهم الإنسان من خلال اللغة، ولهذا وحده، بقي في الأعلى حيث لا يصل إلا مَن يكتب من قلب الجرح لا من طرف الورق.










































