اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
رياض عبدالله الحريري
«كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة» عبارة تختصر عجز اللغة أمام اتساع المعنى، وتلمّح إلى مفارقة مدهشة يعيشها كل من اقترب من جوهر الحقيقة، فكلما تعمق الإنسان في الفهم، ولامس أفقاً أرحب في الوعي، وجد أن الكلمات تخونه، وأن العبارة لا تسع التجربة.
الفكر حين يتسع، لا يزداد ضجيجًا، بل يميل إلى الصمت، ليس لأن العقل فقد وسائله، بل لأنه تجاوزها تمامًا كما يفيض الضوء عن حدود العدسة، ويفيض المعنى عن حدود الجملة، فالمعرفة ليست دومًا قابلة للقول، وبعض الحقائق الكبرى لا تُصاغ بل تُعاش، ولا تُكتب، بل تُلمَح.
اللغة، مهما بلغت من البلاغة والثراء، تظل إطارًا، سقفًا، وجهًا للمعنى لا عمقه. ولهذا، حين يتجاوز الإنسان سطح المعرفة إلى أعماقها، يكتشف أن أكثر الأشياء تأثيرًا هي تلك التي تعجز عن التعبير عنها، كأن ترى مشهدًا لا يوصف، أو تعيش إحساسًا لا يقال، ومن هنا كان الصمت أبلغ من القصائد، وكان التوقف عن الشرح دليلًا على أرقى مراتب الفهم.
ليس الأمر غموضًا أو تعقيدًا، بل هو بساطة فائقة، من فرط صفائها، تعجز اللغة عن لمسها. كما قال النفري وكأن الكلمة، بدل أن تكون مرآة للمعنى، تصبح قيدًا له، وهذا ما يفسّر أيضًا لماذا كانت أسمى التجليات الوجودية شعورًا، أو تصورًا، تنصفها الإشارة أكثر من العبارة.
العبارة قارب، والرؤية محيط.
إنسان الرؤية لا يقنع بشاطئ الكلمة، بل يحدّق في الأفق حيث المعنى الهارب من كل قيد، والممتنع عن كل اختزال، ولهذا لا نعجب حين نجد أن أعظم الفلاسفة والعلماء طالما عبّروا عن حقائق كبرى بألفاظ بسيطة، أو حتى بالسكوت عنها، لأنهم يعلمون أن التعبير الكامل عنها هو تقزيم لها.
إن هذه المفارقة تعكس مأزق الفصاحة ذاتها، فهل نحن بحاجة إلى أن نقول كل شيء؟ أم أن القيمة أحيانًا تكمن في ما لا يُقال؟ ألا يحمل الصمت ما تعجز البلاغة عن حمله؟ إننا نرتبك أحيانًا أمام العمق، فنلوذ بالتعبير، مع أن العمق ذاته لا يحتاج إلى شرح، بل إلى إدراك، وهذا الإدراك لا يأتي من كثرة الألفاظ، بل من صدق النظرة.
العبارة بنت العقل، والرؤية بنت القلب، ولأن ما يُدرك بالبصيرة لا يمكن أن يُنقل بالبصر، ولأن الكلمات تشيخ حين تحاول حمل ولادة الوعي.
هكذا يعلمنا هذا القول أن نحرر أنفسنا من سطوة اللغة، أن نبحث خلف العبارة لا داخلها، وأن نتذكر أن الصمت ليس دائمًا فراغًا، بل قد يكون امتلاءً لا يُطاق.
ختاماً.. المعاني العميقة لا تُلقى… بل تُكتشف.