ذكرى حبيب ومنزل... السعودية تحتفي بـ"مواطئ الشعراء"

مشروع لتوثيق الأماكن التي احتضنت فرسان المعلقات يمتد نطاقه إلى الباحة والأحساء والطائف وحائل وعسير ونجران

على مدى عصور مضت احتل الشعر العربي مكانة ثقافية بارزة باعتباره من أهم المكونات الحضارية للثقافة العربية منذ القدم وحتى وقتنا الحالي، وأسهم الشعر العربي في تشكيل الهوية الحضارية للجزيرة العربية باعتباره عنصراً ثقافياً غير مادي حمل في طياته إرثاً تاريخياً عريقاً.

ولم يكُن الشعر عملاً أدبياً يسجل لنا حركة التاريخ التي صورت المجتمعات في أخلاقهم وحياتهم الاجتماعية فحسب، بل حتى وثق الشعراء المكان الذي امتدت إليه أبصارهم، وكما قال الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه 'جماليات المكان'، فإن 'المكان يدعونا إلى الفعل، ولكن قبل الفعل ينشط الخيال'.

توثيق مواقع الشعراء

حرصت السعودية على القيام بدور محوري في تشكيل الثقافة العربية، وكانت البداية حينما جاءت تسمية عام 2023 بـ'عام الشعر العربي' كمبادرة لإحياء تاريخ الشعر العربي العريق وإحلاله مكانته المستحقة بين آداب العالم وفنونه، ولتعزيز مركزية السعودية بالنسبة إلى الثقافة العربية وتوثيق خطوات الشعراء العرب على أرض الجزيرة العربية عبر التاريخ وأماكن نشأتهم وإقامتهم، بما يرفع الوعي بالعمق الثقافي والتاريخي للبلاد.

تحت مظلة مبادرة 'عام الشعر العربي' أعلنت وزارة الثقافة الأسبوع الماضي عن إطلاق مشروع التوثيق المكاني للمواقع السعودية التي احتضنت أهم شعراء عصر ما قبل الإسلام بملاحمهم وقصائدهم ومعلقاتهم الشهيرة في تاريخ الثقافة العربية، وعاشوا في مواقعها التاريخية وتغنوا بها.

حددت الوزارة 16 شاعراً من بينهم امرؤ القيس المولود في قبيلة كندة، والشاعر قيس بن الملوح الملقب بـ'مجنون ليلى' من أهل نجد، والشاعر لبيد بن ربيعة (ربيب عالية نجد التي كان يحميها كليب، واشتعلت بسببها حرب البسوس)، والشاعرة ليلى الأخيلية التي عُرفت بجمالها وقوة شخصيتها وفصاحتها في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية (تضم اليوم مناطق الرياض والقصيم وحائل)، والأعشى الذي عاش في منفوحة التي أصبحت جزءاً من العاصمة الرياض.

نطاق مكاني ضخم

يمتد نطاق المشروع ليشمل عدداً من مدن ومناطق المملكة مثل الباحة والأحساء والطائف وحائل والمدينة المنورة وعسير ونجران، ووثق بها المشروع المسار الذي عبر فيه ومن خلاله أشهر الشعراء العرب عبر التاريخ مثل الشاعر الشنفرى الذي كان من أشهر شعراء الصعاليك وصاحب 'لامية العرب' ونشأ في قرية سلامان بمحافظة المندق في منطقة الباحة، والشاعر الصلتان العبدي الذي عاش في جبل البريقة، والشاعر طَرَفة بن العبد في جبل القارة، والشاعر علي بن المقرب العيوني في متنزه العيون، إضافة إلى الشاعر النابغة الذبياني وارتباطه بسوق عكاظ، ومنازل حاتم الطائي بحائل، والشاعر حسان بن ثابت في ساحة معركة أحد، والشاعرة الخنساء في المدينة المنورة، والشاعر عبد يغوث الحارثي الذي عاش في موقع يضم حالياً متنزه الأمير جلوي بن عبدالعزيز في نجران والشاعر ابن الدمينة الذي كان موطنه في مدينة العبلاء التاريخية بعسير.

وسيعمل المشروع على تفعيل هذه المواقع التاريخية وإثرائها بالمحتوى المعرفي وتسهيل الوصول إليها عبر تركيب لوحات إرشادية وتعريفية تربط بين هذه المواقع التراثية ليرفع من قيمتها لدى الزوار الذين سيفدون إليها من داخل المملكة وخارجها.

نجد أقدم عواصم الحب

عرف المجتمع الغربي قصة 'روميو وجولييت' بأنها إحدى أهم قصص الحب والمآسي في التاريخ الأدبي الإنجليزي، في حين أن القصة، وهي مجرد مسرحية كتبها ويليام شكسبير بين عامي 1593 و1596، جعلت مدينة فيرونا الإيطالية يزورها نحو مليون سائح سنوياً يكتظون أمام منزل جولييت أو شرفتها، حين كان يلتقيها روميو، بحسب اعتقاد الإيطاليين.

وكان لدى العرب قبل ذلك في العصر الأموي بين عامي 645 و688 ميلادية أشهر قصص الحب العذري للشاعر قيس بن الملوح الملقب بـ'مجنون ليلى'، وهو لم يكن مجنوناً وإنما لقب بذلك لهيامه بحب ليلى العامرية التي نشأ معها وعشقها، وعندما رفض أهلها أن يزوجوها به هام على وجهه ينشد الأشعار ويتغنى بحبه العذري في مدينة ليلى السعودية جنوب الرياض، وهي قاعدة محافظة 'الأفلاج' وأكبر مدنها وأقدم عواصم الحب في العالم.

وكما قال ياقوت الحموي في كتابه 'معجم البلدان'، 'لم يذكر الشعراء موضعاً أكثر مما ذكروا نجد، ولم يتشوقوا لأي أرض كما تشوقوا لأرض نجد'، فعندما حن الشاعر قيس بن الملوح إلى معشوقته ليلى العامرية حن معها إلى نجد حين قال، 'أحِنُّ إِلى نجد فيا ليت أنني سُقيت عَلى سلوانه من هَوى نَجدِ'.

وكما كان للعاشقين الإيطاليين 'روميو وجولييت' شرفة يلتقيان فيها، كان للمتيمان العربيان قبل ذلك بنحو 1000 عام غار يلتقيان فيه، ويحمل اسم 'غار قيس' على جبل اسمه 'التوباد' يقع قرب مدينة ليلى في محافظة 'الأفلاج' بوادي الغيل القريب، وقال مجنون ليلى عن ذلك الجبل، 'وَأَجهَشتُ لِلتوبادِ حينَ رَأَيتُهُ وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني، وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني، فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زَمانِ'.

المعلقات بأستار الكعبة

'يحظى الشعر عند العرب بمنزلة عظيمة، وقد اختار العرب قصائد المعلقات وذهّبوها على الحرير، وناطوها (علقوها) بأستار الكعبة تشريفاً لها وتعظيماً لمقامها واعترافاً بصلابة ألفاظها وحسن سبك معانيها، حتى أصبحت العرب تترنم بها في نواديها وتفخر بها في حاضرها وباديها'، وفق ما قدّم الناشر محمد أمين الخانجي (المعلقات العشر وأخبار قائليها) عام 1912، بشرح الفقيه اللغوي محمد بن الأمين الشنقيطي المولود في موريتانيا عام 1905 والمتوفى بمكة في 1974.

واختلف أصحاب الأخبار في وجه تسميتها 'المعلقات'، فقال ابن عبدربه صاحب 'العقد الفريد' وابن رشيق صاحب 'العمدة' وابن خلدون صاحب 'التاريخ' وكثيرون سواهم ممن نقل عن الصدر الأول من نقلة الأخبار، إن العرب بلغ من تعظيمهم لها أن علقوها بأستار الكعبة فسميت 'المعلقات'، وقيل إن وجه التسمية بذلك لعلوقها بأذهان صغارهم قبل كبارهم، ومرؤوسيهم قبل رؤسائهم، عناية بحفظها والاحتفاظ بها'، وفق الخانجي.

'وكما اختلفوا في وجه تسميتها، اختلفوا في عددها وأصحابها، فمنهم من يجعلها سبع معلقات وأصحابها هم امرؤ القيس بن حُجْر وعدد أبيات معلقته 78 بيتاً، وطَرَفة بن العبد البكري وبلغت مطولته 105 أبيات، وزهير بن أبي سُلمى (59 بيتاً)، ولَبِيد بن ربيعة العامري (88 بيتاً)، وعمرو بن كلثوم التغلبي (94 بيتاً)، وعنترة بن شداد العبسي (82 بيتاً)، والحارث بن حِلِزة اليشكري (82 بيتاً)، وبعضهم يجعلها ثماني، ويضيف إلى أصحابها النابغة الذبياني، وبعضهم يقول 10، ويضيف إليهم الأعشى بن ميمون وعَبِيد بن الأبرص، وعلى ذلك مشى أبو زكريا التبريزي في كتابه 'القصائد العشر الطوال'، وفق ما اختتم الخانجي تقديم 'المعلقات العشر وأخبار قائليها'.