محمد حسين زيدان.. صائغ اللغة وسادن التاريخ

في مثل هذا الشهر الكريم من كل عام وقبل نيف وثلاثين عاماً، وتحديدا قبيل أن يرتفع أذان المغرب من بيت الله الحرام بنصف الساعة، وروائح الأطعمة تنساب من المطابخ لتملأ أنوف الصائمين كان بعضنا يتحلق أمام شاشة التلفاز لمشاهدة برنامج (مواقف مشرقة) الذي يعده ويقدمه الأديب والمؤرخ والنسابة والكاتب الصحفي الأستاذ محمد حسين زيدان (1324 – 1412 هجرية) أحد رواد الأدب والصحافة في بلادنا وممن حملت ذاكرته جزءاً كبيراً من تاريخ هذه البلاد.

كان هذا البرنامج عظيم الأثر في نفوسنا جليل الفائدة بما يقدمه أديبنا الزيدان وما يحمله من صور تاريخية لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوحات مدينية عتيقة مما حفظته ذاكرته القوية فهو ممن عرف بالرواية والدراية، وكذلك خطيب مفوه إذا تحدث إنثالت ذاكرته للسامع عن أخبار الرجال أو مواقع الغزوات أو مواقف الساسة أو قصصه مع الأدباء فلا يرتج عليه البته، فهو يعرفُ حق الكلام ويلتزمُ مقاطعه ومطالعه وحدوده، فلا تعلم كيف مضى الوقت من جمال حديثة وحسن تناوله وبراعة اختياره.

أبصر محمد حسين زيدان النور بمدينة النور (طيبة) مثوى سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام ليختاره الله أن يعيش على ثرى أرض شهدت خاتمة الرسالات السماوية ودرج بها نبيه الكريم وصحابته الأبرار، وأي فضل مثل هذا الفضل بخ بخ، إلا أن هذا الطفل لم يكمل عامه الثالث حتى حال الموت بينه وبين أمه التي فارقته وهو في أمس الحاجة لها، ولك أن تتصور -قارئي العزيز- شعور طفل ترحل عنه أمه وهو في سنواته الأولى ليواجه ألواناً من الحزن والحرمان والألم الذي يصهر الأفئدة مهما كانت رأفة زوج أبيه وفي ذلك يقول حين يتذكر أمه: لقد كنت طفلاً، ماتت أمي ولم أقل لها (يا أماه)، لأنني لم أعرف معنى الأم، وإن كنت حظيت بحنان الأمومة، لم أقل (يا أماه) في طفولتي الخضراء وفي شبابي النضر وفي كهولتي، فكيف أقولها اليوم في شيخوختي؟! .

أراد له والده أن يلحقه بإحدى مدارس المدينة لكن حادثة سفربرلك كانت عائقاً أمامه فنزحت أسرته إلى ينبع البحر ليدخل أول مدرسة في حياته وما إن استقر الأمر بالمدينة المنورة حتى عادت أسرته إليها بعد استسلام فخري باشا وعاد من هُجِّر منها قصراً من أهليها لينضم بعد ذلك إلى المدرسة الهاشمية الراقية وينال شهادتها أواسط عام 1343هـ إلا أن الشهادة المدرسية لا تغني عن الالتحاق بالحلقات العلمية في المسجد النبوي لينهل من معين كبار علماء تلك المرحلة في اللغة والنحو والفقه والتفسير وحفظ الذكر الحكيم، ذلك أنه رزق عقلاً نهماً يتوقُ إلى شتى المعارف الإنسانية، بدأت مدارك الفتى محمد تتسع وتنمو ويزداد محفوظه من التراث وتتشكل موهبته ما جعله يكون في عداد مدرسي المدرسة السعودية عام 1346هـ ليقف أمام طلابه أستاذاً للغة والتاريخ والعلوم الدينية، وحين أطل عام 1352هـ كان قد أصاب الشاب محمد نُجْحاً في عمله ليختار أستاذاً للعقيدة بمدرسة دار الأيتام وحين ازداد تفوقاً أضحى مساعداً لمديرها حتى عام 1358هـ .

إلا أن الشاب محمد حسين زيدان ارتأى أن يخوض تجربة جديد يحقق من خلالها ذاته وتكسبه حضوراً في مجتمعه فانتقل إلى مكة التي كانت في تلك السنوات مجمعاً للأدباء ناهيك عن وجود صحيفتي (أم القرى) و(صوت الحجاز) اللتين كانتا تنشر ما تجود به قرائح الشعراء نفثات الأدباء ولا تسل عن أسواق الوراقة التي تتحلق حوانيتها حول المسجد الحرام الذي يغص بالحلق العلمية المتنوعة ويعلو كل حلقة عالم جهبذ يغدق على طلابه من علمه وفنه.

فراق لصاحبنا أن يلتحق بوظيفة سكرتير لرئاسة مشايخ الجاوى وماهي إلا سنوات قليلة حتى انضم لوزارة المالية رئيساً مساعداً بقسم الأوراق ليتدرج في سلك الوزارة فيكون سكرتيراً للمجلس المالي فرئيساً لقسم الحساب ومنها رئيساً لمحاسبة اللوازم ثم سكرتيراً لإدارة الحج فمديراً عاماً لها حتى تم اختياره رئيساً لمالية مكة وظل يتدرج في وظائفها إلى أن أصبح مفتشاً عاماً للحج ويستقيل بعد ذلك، ويختار عملاً في حقل آخر يكمل به مشوار حياته.

كانت مكة المكرمة قبلة الأدب الحديث في المملكة وقتئذ فجل الأدباء والشعراء والكتاب تضمهم بطاحها فهذه بركة ماجل يلتئم فيها عقد الأدباء وتلك جمعية الإسعاف الخيرية التي لا تبخس أبناء مكة المكرمة جرعاتهم الثقافية إلى جانب الصحيفتين آنفتي الذكر ما جعل من هذه العناصر أن تقدح أقلام هذه الجلة من أدباء الحجاز.

استدار أديبنا الزيدان نحو ما كان يصبو إليه من حياة ثقافية ليضع فيها قلمه ورأيه فكان له ما أراد حيث ظهرت جمهرة من مقالاته في صحيفة أم القرى إذ نشر محاضرته التي ألقاها في جمعية الإسعاف الخيرية والتي حملت عنوان (ماضي العلم وتطور التربية والتعليم في الحجاز) عام 1358هـ ويغلب الظن أن هذه المحاضرة قد لقيت ترحيباً كبيراً من شبيبة الأدب ما جعله يثنيها بمحاضرة أخرى ذات عنوان (أثر النزعة الفردية في إنتاجنا) عام 1359هـ بمقر الجمعية وقد تفاعل الكاتب الزيدان مع كثير من قضايا المجتمع مثل مقالته عن مشروع القرش الذي نشره بصحيفة صوت الحجاز ناهيك عن جملة من المقالات التي أودعها مجلة المنهل وصحيفة المدينة التي تعاون معها محرراً، هذه التراكمات الثقافية والحضور المعرفي وخطبه الكثيرة أهلته ليكون مديراً لتحرير صحيفة البلاد ثم اعتلى سدة رئاستها ومنها إلى رئاسة تحرير صحيفة الندوة المكية.

وقد ارتأى الشيخ عبدالمقصود خوجة إعادة طباعة كل منتوج الأديب والمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان وهو بذلك يسدي للمثقف العربي ثمرات تجربته الثقافية ولتكون في متناول القارئ والباحث ولعل عجبي قد يمتد للقارئ المخلص حين يعلم أن هذا العلم الأدبي الباذخ وذا المصنفات المتنوعة لم يقف على دراسته والكتابة عنه سوى تلميذه النجيب ومريده المحب الأديب والصحفي الأستاذ عبدالله الجفري حين أخرج كتاباً عنه وسمه (الزيدان زوربا القرن العشرين) وما قام به حفيده المهندس طارق فريد زيدان حين أصدر قبل أعوام كتاب (في منزل محمد حسين زيدان) وهو بذلك يعيد دور جده الريادي في الأدب والتاريخ والصحافة إلى ذهن المتلقي إلى جانب دراسة علمية قدمها الباحث فهد العتيبي ذات عنوان (محمد حسين زيدان كاتباً) إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام عام 1424هـ ولا يزال أدب الزيدان وجهوده التاريخية تغري طلاب الدراسات العليا والباحثين إن أولوها بحثاً ودرساً.