اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ أب ٢٠٢٥
د. طلال الحربي
في اللحظات الفاصلة التي تختبر فيها الأمم قيمها، تبرز المبادرات الإنسانية كأصدق تعبير عن روح المجتمع ووجدانه، وما أن يبادر القائد بهذه المبادرات، حتى تتحول من فعل عابر إلى قيمة راسخة، ومن مبادرة فردية إلى ثقافة جماعية، هذا هو بالضبط ما جسده تبرع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد -حفظه الله-، بالدم، وإطلاقه «حملة ولي العهد للتبرع بالدم» كمناسبة وطنية سنوية.
لم تكن هذه الخطوة مجرد لقطة إعلامية، بل كانت رسالة قوية مفادها أن ثقافة العطاء والتكافل هي جزء أساسي من نسيج هذا الوطن وهوية أبنائه. لقد تجاوز سموه دور القائد الموجه إلى القدوة الفاعلة، مشاركا بنفسه -حفظه الله- إلى الميدان ليمارس ما يدعو إليه، معبراً بذلك أن المسؤولية المجتمعية هي مسؤولية الجميع، تبدأ من أعلى الهرم القيادي وتمتد إلى كل فرد قادر.
هذه المبادرة ليست منفصلة عن سياقها، بل هي حلقة في سلسلة متواصلة من المبادرات الإنسانية التي قادتها القيادة الرشيدة -أيدها الله-، بدءاً من التقدم لأخذ لقاح كورونا كأولى الخطوات، مروراً بالتسجيل في برنامج التبرع بالأعضاء. إنه نهج ثابت يعكس رؤية عميقة تضع صحة الإنسان ورفاهيته في صدارة الأولويات، وذلك انسجاماً كاملاً مع أهداف رؤية المملكة 2030 الساعية إلى بناء مجتمع حيوي يتمتع أفراده بحياة صحية متكاملة.
وللمبادرة أهداف استراتيجية واضحة وطموحة، أبرزها رفع نسبة التبرع الطوعي بالدم إلى 100 % من إجمالي المتبرعين، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي في بنوك الدم على مستوى المملكة. هذا الهدف لا يقتصر على الجانب الكمي فحسب، بل هو تحول جذري في الثقافة الصحية المجتمعية، يضمن استدامة موارد الدم، وينقذ حياة آلاف المرضى والمصابين، ويدعم القطاع الصحي لتحقيق أعلى معايير الجودة والكفاءة.
ولعل الأثر الأكبر لهذه المبادرة يكمن في قوتها الإعلامية والإلهامية. فالصورة التي التقطت لسمو ولي العهد أثناء تبرعه بالدم هي أقوى من أي حملة إعلانية، إنها قصة بصرية تترجم قيم التضامن والعطاء إلى فعل ملموس، وتعزز رسائل أساسية في وجدان المجتمع: أن التبرع بالدم هو واجب وطني، وأن المسؤولية المجتمعية هي مشاركة جماعية، كما أنها تبعث برسالة طمأنينة قوية للمواطن والمقيم، مفادها أن قضاياهم الصحية هي في صلب اهتمام القيادة، وليست مجرد ملفات إدارية.
وفي سياق متصل، تؤكد هذه الثقافة نفسها في مواقف أخرى، مثل قصة البطل ماهر الدلبحي، الذي خاطر بحياته لإنقاذ الآخرين في حادثة محطة الوقود في الدوادمي. إن تكريم القيادة له بمنحه وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى ومكافأة مالية ليس تكريماً لشخصه فحسب، بل هو تكريم لقيمة الشجاعة والتضحية التي يتشارك فيها أبناء هذا الوطن. هذان الموقفان، تبرع القائد وتضحية المواطن، هما وجهان لعملة واحدة: ثقافة وطنية تقوم على العطاء وحماية الحياة.
تمثل مبادرة سمو ولي العهد نموذجاً ملهماً للقيادة بالقدوة، تجسد العلاقة التكافلية بين القائد والشعب، حيث تذوب الفواصل في ساحة العمل الإنساني. إنها دعوة صامتة لكنها مؤثرة لكل فرد في المجتمع للإسهام في بناء هذا الوطن، انطلاقاً من مسؤوليته المجتمعية. فهكذا تُبنى الأمم، ليس بالتخطيط الاستراتيجي وحده، بل أيضاً بالأفعال التي تلامس القلوب وتحول القيم إلى واقع ملموس.