اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
د. بدر بن سعود
الملك عبدالعزيز رجل من طينة خاصة، وهو استثناء في كل شيء، ومثله لا يتكرر، فسيرته مبهرة بشكل لا يمكن تصوّره، وأعتقد أنه يمثل علامة فارقة، ليس في التاريخ العربي والإسلامي، وإنما في التاريخ الإنساني بأكمله، وهو من دهاة الرجال وأكثرهم حكمة، ويعرف الأوقات المناسبة لاستخدام عقله أو استبداله بسيفه، وقد أعاد إلى هذه الأرض تأثيرها الذي فقدته..
ستأتي بعد غدٍ مناسبة اليوم الوطني، التي توافق 95 عاماً من تاريخ إعلان توحيد الدولة، وتسميتها باسمها الحالي، وتحديداً في يوم 23 سبتمبر 1932، الذي كان شاهداً على إصدار الملك عبدالعزيز، للأمر الملكي التاريخي بتوحيد وتسمية الدولة، ومن بيت طيني في الرياض، وقد كانت أول ميزانية سعودية لا تتجاوز 14 مليون ريال، أو ما يعادل ثلاثة ملايين و734 ألف دولار، وجاءت بعد عام واحد من إعلان التوحيد، وفي المقابل وصلت الميزانية السعودية اليوم لما يزيد على التريليون ريال، أو قرابة 375 مليار دولار، وإنجاز الملك المؤسس كبير بكل المقاييس، فالمملكة تمثل الجزيرة العربية برمزيتها التاريخية، ومن أرضها خرجت العروبة والرسالة المحمدية، ودولة عبدالعزيز تجاوزت سابقاتها في كل الميادين، وكسرت أنماطاً كثيرة في التفكير والعمل، من خلال ملكها سلمان بن عبدالعزيز، الذي كان مستشاراً لإخوانه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، وحاكماً إداريا من طراز رفيع، قبل أن يصبح ملكاً، ويساعده سمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، صاحب الرؤية المتفوقة، والقائد الكاريزماتي والاستثنائي.
معارك توحيد المملكة أخذت ثلاثين عامًا من عمر الملك عبدالعزيز، ما بين عامي 1902 و1932، ومن ثم بدأت مرحلة الحكم وإدارة الدولة لنحو 21 عاماً، أو لأواخر عام 1953، والمعنى أن مسيرة التوحيد والبناء أخذت منه 51 عاماً، وقد توفي وعمره 77 عاماً، وعبدالعزيز اهتم باستقرار البادية في 1912، وهو ما قاده إلى التفكير في إقامة الهجر، وإقناع كل قبيلة بالهجرة من الصحراء إلى قرى خاصة بهم، وكان لكل قبيلة مجموعة من الهجر، فيها قاضٍ ومعلم وأمير، ومساجد ومدارس ومحاكم، ووزع عليهم مكائن تساعدهم في الوصول إلى الماء، ومعها مهندسون لتدريبهم عليها، وأعطاهم بذوراً لزراعتها قام باستيرادها من الخارج، وإقامة الهجر والقرى أنهت تدريجياً الحروب بين القبائل لانعدام أسبابها، وفيها اختصار لفكرة الدولة، وركائزها الأساسية، التي تقوم على العدالة والتعليم والسلطة التنفيذية، بجانب الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهذا المشروع يمكن وصفه بالأضخم من نوعه، في التاريخ العربي والإسلامي.
أولويات الملك بدت واضحة في نظره، ولأن المتعلمين من شعبه كانوا نحو 20 %، وتعليمهم كان مقصوراً على القراءة والكتابة والتعليم الأولي، فقد استعان بمستشارين عرب مع الغربيين المعروفين، من بينهم، العراقي عبدالله الدملوجي، مستشاره للشؤون السياسية، والسوري يوسف ياسين، المثقف الذي أسس صحيفة أم القرى، وعمل على تزويد الملك بما تكتبه الصحافة العالمية، والليبي خالد القرقني، مبعوث الملك في القضايا الحساسة، الذي أرسله إلى اليمن الشمالي للتفاوض باسم الدولة، وإلى أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية.
المستشفيات في بداية عهد الملك عبدالعزيز كانت ثلاثة لا أكثر، مستشفى أجياد في مكة، ومستشفى باب شريف في جدة، ومستشفى في المدينة، وقد قام برفعها إلى 11 مستشفى و55 مستوصفاً، في كل مناطق المملكة اعتباراً من عام 1925، واستقدم الأطباء، وعمل على تطعيم الناس، من أوبئة كالجدري وغيره، ما أشعرهم بوجود حلول سحرية، لأمراض كانت تقضي عليهم طوال أعوام، وسكان المملكة حينها لم تتجاوز أعدادهم الثلاثة ملايين، وعبدالعزيز أسس الخطوط السعودية، والإذاعة، ومطار جدة الذي عرف لاحقاً باسمه، وميناء الدمام، ومجلس الشورى، وقطار الرياض الدمام، وكلية الشريعة التي تعتبر النواة الأولى لجامعة أم القرى، والمدارس العامة.
بالإضافة إلى الرياضة التي بدأت في أيامه، بأندية الشباب والاتحاد والوحدة والأهلي، ومعهم أحد والخليج والاتفاق وهجر والتهامي، وبطبيعة الحال المنتخب السعودي، وفي الشؤون المالية، تم إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي، المعروفة حالياً بالبنك المركزي السعودي، وغرفة التجارة في جدة، وصدرت أول عملة في تاريخ الجزيرة العربية، وبدأ الابتعات للخارج، وتم تأسيس مدرسة لتأهيل الشباب المبتعثين، وثانية للتعليم الصحي لتخريج الأطباء، وثالثة للميكانيكا لتخريج المهندسين الميكانيكيين، وأقيمت دار صناعة لتصنيع كل المعدات التي تحتاجها الحكومة.
الملك عبدالعزيز رجل من طينة خاصة، وهو استثناء في كل شيء، ومثله لا يتكرر، فسيرته مبهرة بشكل لا يمكن تصوّره، وأعتقد أنه يمثل علامة فارقة، ليس في التاريخ العربي والإسلامي، وإنما في التاريخ الإنساني بأكمله، فقد كان عندما يهزم خصومه يحرص على إكرامهم وإعادة الهيبة لهم داخل أوساطهم، ويصاهرهم أحياناً، ولا ينتقص من قدرهم، وهو من دهاة الرجال وأكثرهم حكمة، ويعرف الأوقات المناسبة لاستخدام عقله أو استبداله بسيفه، وقد أعاد إلى هذه الأرض تأثيرها الذي فقدته، منذ انتقال عاصمة الخلافة إلى الكوفة، في زمن علي بن أبي طالب، ولولا التوحيد السعودي لاستمرت نجد عبارة عن إمارات صغيرة محدودة الموارد، ولأصبحت مدن النفط على ساحل الخليج تابعة لقوى إقليمية أو عالمية، ولكان الجنوب منطقة لصراع ممالك على النفوذ، ولأفرغ الحجاز من عمقه التاريخي والديني، وكلها لن تستطيع حماية نفسها من أبسط الأشياء، ولن تتوفر لديها القدرة على استثمار ثرواتها.