اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٨ نيسان ٢٠٢٤
د. خالد الخضري
يمثل المكان في ذاكرة القارئ العربي رمزية خاصة، ارتبطت بحوادث عالقة طبعت أثرها في العقل والقلب وصاغت هوية شعرية أو أدبية للمكان، حيث شكل المكان دلالة رمزية عبر أجيال الكتابة القديمة والحديثة، شحن بمعان ذاتيّة تعبّر عن أحاسيس الحبّ والوفاء والولاء للمكان.
أحد هذه الأماكن التي برزت في الشعر 'جبل التوباد' والذي سجل ضمن المواقع التراثية المهمة للمملكة العربية السعودية، وما خبأه هذا المكان من حكايات جعلته شاهداً على قصة حب 'ليلى العامرية' و'قيس بن الملوح' التي وقعت بين عامي 24 و 68 هجري، حتى عرف بـ'جبل الحب أو جبل العاشقين' وبات يتغنى به كثير من الشعراء العرب.
يقع 'جبل التوباد' في مدينة 'الأفلاج' الواقعة في الجنوب الغربي من مدينة الرياض وتبعد عنها بمسافة تقدر بـ 350 كم، تحديداً بالقرب من قرية الغيل التي تشتهر بالعيون الطبيعية ومزارع النخيل، ويبلغ ارتفاعه عن الوادي نحو 20 متراً بينما يمتد طوله 100 متر.
شكل هذا الجبل ملاذاً لـ'قيس بن الملوح' بعدما تحطم قلبه بتزويج محبوبته 'ليلى' من 'ورد الثقفي'، ليلقب بعد ذلك بـ'مجنون ليلى' نتيجة الحب العظيم الذي يحمله تجاهها، ونقشت على صخوره بعض أشعار قيس بن الملوح وذلك عندما كان يمر بجانب الغار ويتذكر حبه وهيامه بـ ليلى العامرية، ليشكل بذلك معلماً أثرياً ثقافياً شاهداً على تاريخ قديم.
قال قيس في هذا الجبل:
وأجْهَشْتُ لِلتـَّوْبـَادِ حِينَ رَأيْتـُهُ
وهلـل (وكبر) للرحمن حين رآني
وأذْرَيْتُ دَمْــعَ الْعَيْــــنِ لَمــَّا رَأيْــتُـــهُ
ونــــــادَى بـــأعْلــَى صَوْتِــــــهِ ودَعَانـــــــــــِي
فَقُلْـــتُ لـــــه أيــــن الَّذيــــِنَ عَهِدْتُهــُمْ
حـــــواليـــك فــــــي خصــــب وطيــــب زمــــــان؟
كما نظم أمير الشعراء أحمد شوقي، في مسرحيته الشعرية: 'قيس وليلى'، هذه الأبيات على لسان قيس، ومخاطباً جبل التوباد والتي غناها فيما بعد الموسيقار والملحن/ محمد عبد الوهاب:
جـبـــل التـــوباد حيــاك الحــيا
وســقى الله صبـــانا ورعــا
فـيك ناغــينا الهــوى في مــهده
ورضــعناه فكنت المُــــرضعا
وعــلـــى ســفحك عشنا زمـنا
ورعيـــنا غـــنمَ الأهــــل مـعا
وحـَدَونا الشمسَ في مَغـــــربها
وبَكــرنا فسبَـقــنا المَطلعا
هــــذه الربـــــوة كانت مَلـــــعـَـبا
لشبابَيــنا وكانت مـَرتـــــعا
كــم بنــــينا مــن حصــاها أربُــــــعا
وانثـنـينا فمَحَونا الأربُــعا
وخطـــطنا في نــقى الرمل فلم
تحفظ الريحُ ولا الرملُ وعَى
لم تـــزل ليلى بعَيــنى طِـــفلة
لم تــزد عــن أمس إلا إصبـــَعا
ما لأحــجــارك صُـــمّا كلما
هــاج بي الشوق أبتْ أن تســمَعا
كلــما جـئــــتك راجــــعتُ الصِــــبا
فأبــتْ أيامُـــه أن تــرجــِعا
قـد يهــــون العـُـــمرُ إلا ساعــة
وتهـون الأرض إلا مَوضِــعا
الجديز ذكره أن هيئة الآثار والتراث في المملكة العربية السعودية اهتمت بموقع 'جبل التوباد' من خلال تعزيز الجولات السياحة للموقع، ووضع اللوحات الإرشادية التي تبين للزوار الاتجاهات الصحيحة للجبل، ويوجد أيضاً سلالم صخرية منحوتة في الجبل تُسهل الصعود، كما يتم تنظيم جولات سياحية برفقة مرشدين سياحيين سعوديين، الذين يقومون بالشرح الوافي للزوار، بأكثر من لغة عن أهمية هذا الجبل كتراث محلي عريق ارتبط بالذاكرة الشعرية في هذه المنطقة المهمة في المملكة، حيث ارتبط بشعر الغزل العذري على وجه التحديد وقصص الحب والغرام العذري الذي تمتد وترتبط بذاكرة الإنسان العربي قاطبة، ما خلد هذه القصة قصة، مجنون ليلى - قيس بن الملوح - الذي عشق ابنة عمه: ليلى العامرية، والتي كان يرغب في الزواج منها، ولكن العرب كانت وقتها تمنع تزويج من يقوم بـ -التشبيب بالفتاة- ويقصد بالتشبيب هنا: هو كتابة القصائد الشعرية الغزلية، ويقومون بتزويجها لرجل آخر، تأكيداً على عفاف وعذرية ابنتهم، ما أوقع قيس بن الملوح في مأساة الحب والغرام، وجنون الوله، التي أدت به إلى الجنون حسب القصة المحكية تراثياً، وما ورد عبرها من الكثير من قصائد الشعر الغزلي لمجنون ليلى.
كما أن هناك قصصاً أخرى مشابهة، لعاشق لبنى -قيس بن الذريح- وغيرهم ارتبطت هي الأخرى بأمكنة مشابهة.
وبعد الشرح المفصل للقصة يتم البدء في صعود الجبل خلال ساعات النهار، والاستمتاع بمنظر الصخور الحادة والأجواء المشمسة، بالإضافة إلى التقاط الصور التذكارية على قمة الجبل.
وتختلف وجهات النظر في العمل الإبداعي بعامة والشعر خاصة، فهناك مَن يرى أن الشعر يجب ألا يطوقه المكان، أي أن يبقى عامّا في الزمان، فيما يرى آخرون أن كل تجربة تخلو من المكان ليست بتجربة، فالكائن الحيّ يُشكّل حيزاً في المكان وتجاربه الروحية والمادية لا يمكنها أن تتشكل خارجه، لكن يبقى الإبداع هو الفيصل، فعين المبدع تقرأ المكان بطريقتها وتنتج ما يسمى الإبداع.