اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الرياض - الثقافي
لم تعد بيوت الثقافة في المملكة مجرد مبانٍ حديثة أو مكتبات مُعاد تأهيلها؛ بل تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى ما يشبه البنية الرمزية لنهضة ثقافية وطنية تتسع يومًا بعد يوم. فهي ليست مشروعًا إنشائيًا وحسب، بل إعلانًا صريحًا بأن الثقافة لم تعد تفصيلًا جانبيًا في حياة المدن والقرى، بل أصبحت جزءًا مركزيًا من رؤية المملكة لمستقبلها، وركنًا ثابتًا في مشروعها الحضاري.
فعندما أطلقت وزارة الثقافة مبادرة بيوت الثقافة عام 2020 تحت إشراف هيئة المكتبات، لم يكن الهدف إنشاء مكتبات جديدة، بل إعادة تعريف المكتبة نفسها: من فضاء للكتب إلى فضاء للحياة اليومية، ومن غرفة قراءة إلى مساحة للتعلّم، والإبداع، والحوار، والمواطنة الثقافية. إنها خطوة تشير بوضوح إلى أن المملكة تريد للمواطن والمقيم أن يمارس الثقافة لا كفعل موسمي، بل كجزء أصيل من إيقاع يومه.
وتقوم فكرة بيوت الثقافة على فلسفة واضحة: أن المعرفة ليست مواد محفوظة، بل تجربة تُعاش. ولذلك تحوّلت هذه البيوت إلى بيئات متعددة الوظائف؛ تضم قاعات للقراءة، وأركانًا للأطفال، ومسارح صغيرة للفعاليات، ومساحات للابتكار الرقمي، وغرفًا للتدريب والإنتاج الإبداعي، ومقاهي ثقافية تعيد للكتاب حضوره اليومي بين الناس.
إنها مكتبات ترى الثقافة في الطفل كما تراها في الباحث، وفي الأسرة كما تراها في الفنان، وفي القارئ كما تراها في اليافع الذي يبدأ خطوته الأولى نحو الشغف.
وفي مدن متفرقة -من الدمام وأحد رفيدة إلى الرياض وجدة- باتت هذه البيوت تشكل شبكة وطنية تُوزّع الثقافة على الجغرافيا السعودية بعدالة ووعي، وتقدّم للمدينة ما تحتاجه من هواء معرفي، وللسكان ما يحتاجونه من مساحات للقاء، والتجربة، والانتماء.
قيمة هذه البيوت لا تكمن فقط في تصميمها المعماري الحديث، ولا في تجهيزاتها التقنية، بل في كونها منشآت قريبة من الناس: يقصدها الطلاب للمذاكرة والتعلّم، ويزورها الأطفال للحكاية والدهشة، ويجد فيها الشباب مساحة للورش والتجربة، وتلتقي فيها الأسر في فعاليات تُعيد تشكيل الذاكرة المشتركة.
إنها بيوت تحاول أن تكون جزءًا من تفاصيلنا الصغيرة، من مشاوير نهاية الأسبوع، ومن رغبتنا الدائمة في أن نرى أنفسنا في أماكن تُشبه تطلعاتنا. ولعل ما يجعلها نموذجًا مهمًا هو قدرتها على إدماج المجتمع كله في فعل ثقافي مستمر لا ينقطع بانتهاء الفعالية أو الموسم.
تستهدف المبادرة إنشاء 153 بيتًا للثقافة بحلول عام 2030، في إطار طموح واضح لتوسيع البنية التحتية الثقافية وتوزيعها جغرافيًا بما يحاكي معادلة الإنصاف الثقافي التي تتبنّاها الدولة.
وهذه البيوت ليست مجرد مشاريع حكومية، بل جزء من مشروع جودة الحياة، ومن رؤية تجعل الثقافة بوابة لخلق مجتمع أكثر وعيًا، وانفتاحًا، وثقة بذاته.
ومع تزايد الإقبال على هذه البيوت، أصبحت المملكة تبني -بالتوازي مع المتاحف والمسارح والمكتبات الرقمية- طبقة جديدة من الجمهور الثقافي، جمهور يرى في الفضاء الثقافي حقًا يوميًا، لا حدثًا استثنائيًا.
نجحت بيوت الثقافة خلال فترة وجيزة في أن تكون منصات فاعلة لصناعة المواهب، حيث باتت تحتضن ورشًا متخصصة، ونوادي للقراءة، وبرامج للأمسيات، ومساحات للتجريب الفني والتقني. ولأنها بنيت على فلسفة المشاركة، فهي تُقدّم لكل زائر فرصة ليكون جزءًا من المشهد الثقافي، مهما كان عمره أو خلفيته.
إنها مؤسسات تُعيد الثقة في قوة الثقافة على تغيير الوعي، وبناء الهوية، وتشكيل علاقة جديدة بين الفرد ومحيطه. ومثلما تعلن الجوائز الثقافية الوطنية عن تقدير الدولة للمنجز الثقافي، فإن بيوت الثقافة تعلن -على الأرض- أن الثقافة ليست نخبوية، بل متاحة وممكنة وقريبة، وأنها بيتٌ للجميع.
بيوت الثقافة ليست مشاريع مكتبية، بل مشاريع رؤية. إنها الفضاء الذي يتقاطع فيه الماضي بالحاضر، والهوية بالمعرفة، والقراءة بالابتكار، والفرد بالمجتمع. ومع توسعها، يتشكّل أمامنا مشهد ثقافي جديد، مشهد يُعيد للأماكن دورها القديم كحاضنة للأفكار، ويمنح للمدن السعودية قلبًا نابضًا بالثقافة.










































