اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣٠ تموز ٢٠٢٥
عبدالله الصليح*
في الأيام الماضية، جلستُ مع أحد الخريجين حديثًا، يتحدث بحماسة عن رغبته العارمة في السفر إلى الفضاء، لم يكن حديثه عن الفضاء مجرد رغبة في مغامرة، بل كان يعبّر عن عزمه الكامل على مغادرة البلاد وعدم إكمال دراسته الجامعية في ذات البيئة، كان يتحدث بحماسة شديدة، وخلف الكلمات: كانت ملامح القلق واضحة، أكدها واصفًا إنه يعيش هذه الأيام في جحيمٍ نفسي، جعل نومه قلقًا، وراحته مهددة، وانفعالاته متوترة.
رأيته بعينيّ شابٍ يودّ التحليق بعيدًا عن محيطه، يرغب في رسم خارطة جديدة للعالم، بمنظور مختلف، وكأنه متمرّد يتقدّم الصفوف ليهجم على ماضيه وحاضره، على جذوره وبيئته، لم أستطع مقاومة إعجابي بالتماع عينيه، وبذلك الشغف النابع من حديثه.
أخذني حديثه في رحلة إلى نفسي، إلى ما كنت عليه في عمره، استرجعت أحلام الفتى المندفع، حين كنت أودّ تغيير خارطة العالم أيضًا، أو تقسيم سنوات عمري على القارات والدول، كنت ذلك الضحوك — وما زلت — الذي يملأ المكان بضحكاته وأفكاره الغريبة، حديثه كان مرآة جعلتني أسير في حديقة ذكرياتي، أقطف منها ما ينفعني، وأسترجع ما علق بي من تجاربها.
تذكرت أصدقاء الدراسة في تلك المرحلة، منّا من حقق نصف أحلامه، ومنا من بلغ أهدافه ليعيش أزمة النجاح، وفراغ ما بعد الوصول، أنظر لهاتفي الذي لا يكفّ عن النداء، وأقول لنفسي: ها أنت، يا مولعًا بالعمل والنجاحات، تسير في طريقك المعتاد، تحقق نجاحًا بعد آخر، تزهو به مواسيًا نفسك في لحظة المرض، أو القلق، أو العزلة.
أنظر إلى انعكاس وجهي في الشاشة، أرى بعض الشعرات البيضاء، والهالات السوداء، والشفاه الجافة من إهمال العناية وشرب الماء، وأتساءل بصمت:
ماذا لو…؟
ماذا لو استطاع كل طفلٍ حالم أن يطّلع على ضريبة أحلامه قبل القتال من أجلها؟
ماذا لو أدرك مَن حقّق الثراء أن صحته التي أنهكها الضغط المتواصل، ستصبح أغلى ما يفتقد؟
ماذا لو علم من تمنّى أن يُرزق أبناءً، أن قلبه سيتفتت إلى قطع صغيرة تكبر وتفارقه، ويبقى مشروطًا بها، مرتهنًا لبرّها؟
ماذا لو أدرك من أفنى عمره في الدراسة الأكاديمية ليصبح محاضرًا أو طبيبًا أو مهندسًا، أنه سيعاني من اعتلالات نفسية يخفيها خلف قناع الجدارة؟
ماذا لو لاحظنا، بينما نؤجّل أحلامنا ونحبس ذواتنا في قلق المستقبل، أننا نمارس نوعًا من الجمود الشعوري، يُنسينا كيف نضحك بعفوية، ونحب بحماسة، ونتفاعل بلا حواجز؟
أحب اللحظة.
وأستشعر بصدق كيف يمكن لانشغالنا بترميم الماضي أو القفز إلى المستقبل، أن يسرق منا أعزّ ما نملك: الآن.
اللحظة الحاضرة، كما يبدو، هي أكثر ما نُهمله وسط انشغالاتنا بالزمن القادم والمنصرم. وربما تكون، في النهاية، الحقيقة الوحيدة التي نملكها فعلًا.
*كاتب وناقد سعودي