لماذا تحمي السعودية "قناديل البحر" المسمومة؟

الرياض تختبر جاهزية أسطولها البحري لمكافحة التلوث على وقع التهديدات الجيوسياسية

ما جرى التخطيط له في مياه البحر الأحمر السعودية، باعتباره تمريناً تعبوياً لمكافحة التلوث، صار أقرب لمواجهة فعلية هذه المرة في قاع البحر، إثر تزامن التمرين مع استهداف الحوثيين سفينة 'ماجيك سيز'، مما جعل الفريق الميداني للمهمة يستشعر اقتراب الخطر.

فلئن كانت الحدود السعودية آمنة حتى في اللحظات الحرجة مع تصاعد التوتر في الإقليم جراء المواجهة بين إسرائيل وإيران أخيراً، فإن تهديدات التلوث في الحدود المجاورة قد تلقي بظلالها في أي وقت، مما استدعى رفع الاستجابة إلى حدها الأقصى.

يأتي ذلك في وقت ينظر فيه المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي الذي يقود تحالفاً من 56 جهة حكومية وخاصة لتنفيذ المهمة، إلى التهديدات البيئية باعتبارها تحدياً حقيقياً، مما جعله يجهز أسطول سفن وطائرات متخصصة للسيطرة على التهديد في غضون 45-60 دقيقة، مستهدفاً تسجيل أفضل الأرقام في المؤشرات الدولية على هذا الصعيد.

واعتبر الرئيس التنفيذي للمركز علي الغامدي لـ'اندبندنت عربية' التمرين التعبوي محطة مهمة لاختبار قدرات السعودية على الاستجابة، خصوصاً الانسكابات الزيتية والمواد الضارة، في مواقع قال إنها تتسم بالحساسية بوصفها موائل طبيعية 'غنية بالشعاب المرجانية، ومناطق لأشجار المانغروف، وسواحل مخصصة للترفيه، تعد كلها ثروات طبيعية تستوجب الحماية'، مبيناً أن حماية الاستثمارات الوطنية الكبرى تتطلب التأكد من جاهزية فرق الاستجابة والتجهيزات الفنية، للحد من أي تسرب قد يلحق الضرر بالبيئة أو الاقتصاد.

سيناريو التهديد

وكانت الفرضية التي نفذتها طائرة وأربع سفن، على بضعة أميال بحرية من مدينة ينبع غرب السعودية، صممت للاستجابة لبلاغ وسط البحر لسفينة نفطية تعرضت لضرر بالغ أدى إلى تسرب 75 ألف برميل نفطي من محيطها. وهي مناسبة تقام بسيناريوهات مختلفة مرتين كل عام، بغض النظر عن الأحداث والتطورات الجيوسياسية.

وفي المشهد الذي حضرته 'اندبندنت عربية' على سفينة 'كاميليا'، شكلت السفن بجموعها الأربع طوقاً شبيهاً بحرف 'u' حاصرت عبره منطقة انسكاب الزيت الافتراضي، ورشت بالمواد الكيماوية المساعدة في تفككه، قبل أن تلقي بأجهزتها المتخصصة في شفط النفط المتسرب.

بعد دقائق جاءت طائرة 'الكتراكتر' المتخصصة في هذا النوع من المهمات لتقوم من جانبها بطلعات متكررة خلال 15 دقيقة لرش المواد المؤثرة في تفكك كتل الزيت، لتساعد في سرعة المعالجة. في غضون المدة المستهدفة، تمكن الفريق المكون من 60 شخصاً متعددي الخبرات والتخصصات على متن السفن والطائرة من السيطرة على التهديد، الذي لم يعد مع الأجواء الإقليمية المضطربة فرضية بعيدة من الوقائع.

وفي الخلاصة الإحصائية التي رصدها المركز من نقاط الاستجابة المختلفة على الشواطئ والبحر أفادت 'اندبندنت عربية' بأنه جرى استخدام 15 وسيلة بحرية متخصصة، إلى جانب معدات احتواء ومكافحة شملت أكثر من 2600 متر من الحواجز المطاطية، و31 كاشطة زيت، و4500 متر من الحواجز الماصة، مدعومة بتقنيات رصد متقدمة عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات من دون طيار، ونظم نمذجة ومحاكاة لحركة التلوث في البيئة البحرية.

ويشرح المشرف على جانب الطيران في التمرين الكابتن عبدالله الشريف في حديث مع 'اندبندنت عربية' الظروف المعقدة لهذا النوع من المهمات، بوصف الطيران يحتاج إلى النزول لمعدل منخفض، 'يحتاج إلى مهارة فائقة لا يستطيع التكيف معها سوى عدد محدود من الطيارين'، مما قال إنه يفسر قلة توفر تلك التجهيزات لمعظم دول الإقليم، بما يزيد من أخطار تعرض البحر الأحمر للتلوث.

ويشير إلى أن أهمية التدخل السريع تتجاوز شفط المادة الخطرة إلى التقليل من فاعليتها السلبية عند قيام السفن والطيران المساند بتفكيك كتلة الزيت، بما يمنح الكائنات البحرية فرصة للنجاة واستنشاق الأوكسجين، إلى حين يجري كشط المادة بالكلية، والاحتفاظ عليها داخل السفن، في عملية يؤكد الفريق أنها تتلوها مراحل أخرى من التدوير والتصفية.

مهمة محفوفة بالتحديات

وبعد انتهاء العملية في غضون وقتها المحدد سألت 'اندبندنت عربية' القبطان أرسينيو ايقوت عما يدفعه إلى التوتر على رغم طابع المهمة العادي، فيمسح العرق عن جبينه ثم يسند المقود إلى مساعده، ويقول بجدية 'نحن في البحر ينبغي أن نكون دائماً مستعدين لأي تطور. صحيح أننا في منطقة آمنة، لكن مفاجآت البحر لا تنتهي، ويبقى البحر هو البحر'.

ألا تخيفك الأخطار الأمنية؟ يشيح بنظره ثم يعتدل مزاجه ويبتسم قائلاً 'بالطبع، لحسن الحظ أنني لست على الناحية الأخرى من البحر (منطقة الحوثي)، ولكن هذا عملي، حتى لو استدعى الأمر أية مخاطرة، هذا قدرنا. تأسفت لبعض البحارة في إحدى السفن من دولتي الفيليبين، عندما تعرضوا للاحتجاز' من جانب الحوثيين.

بعد ذلك، فاجأني بسؤاله 'هل تعلم عدو البحارة اللدود'؟ فكان في اعتقادي بدهياً، وهو الحروب والقرصنة، لكنه يعقب بأنه 'الأجواء وتقلباتها'!

لكن بالنسبة إلى المنشغلين بحماية البيئة وحراسة تهديداتها، فإن أفعال الإنسان تظل الخطر الأشد.

'القناديل' زائر غير متوقع

وبينما نحن في طريقنا عائدين للرصيف، يلتفت بحار على السفينة التابعة لأسطول 'سيل' التابعة للمركز، إلى انعكاس الشمس على مياه البحر الصافية، فتبدو من أعماقها 'قناديل البحر' وقد شكلت أسطولها هي الأخرى تبحث عن طرائدها أو النجاة، ويقول 'تخيل لو أن هذه الكائنات الجميلة ذابت فوق رؤسها براميل النفط التي نفذنا فرضية معالجتها قبل قليل'؟

 تخيلت لكني مثل كثيرين لست متأكداً أني فهمت لماذا علينا الاعتناء بالكائنات البحرية أو حتى البرية، بما في ذلك السامة التي قد تضر بالإنسان إذا ما اقترب منها مثل القناديل والقروش والثعابين البحرية السامة.

غير أن جهة أخرى في السعودية أكثر تخصصاً في جانب الكائنات البحرية والحياة الفطرية، فسرت ذلك بمنطق علمي أكثر، وقالت في معرض الإجابة عن سؤال 'لماذا يجب علينا المحافظة على البيئة البحرية وكائناتها'؟ إن البيئة البحرية وكائناتها تعد من أهم الموارد الطبيعية التي 'يجب علينا المحافظة عليها بصورة جيدة، فهي موطن لعدد من الأنواع النادرة والمهددة بالانقراض، إضافة إلى أنها تلعب دوراً حيوياً في توازن النظام البيئي العام'.

ولفتت إلى أننا إذا كنا لا نحافظ على البيئة البحرية وكائناتها، فإننا سنتسبب في تدمير هذا النظام الحيوي المهم، 'فقد يؤدي التلوث البحري والصيد المفرط وتغير المناخ إلى انخفاض أعداد الكائنات البحرية وتدهور حالتها الصحية، وهذا بدوره يؤثر في التوازن البيئي والتنوع البيولوجي في المحيطات'، وفق الحياة الفطرية السعودية.

حيوات مترابطة

لكن بيت القصيد بالنسبة إلى الذين يتساءلون عن سر الاهتمام بكائنات تبدو لأول وهلة مضرة، هو إشارة الجهة السعودية المتخصصة، إلى أن 'البيئة البحرية فضلاً عن ذلك تلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان. فهي توفر لنا مصادر غذائية غنية بالبروتين والفيتامينات، إضافة إلى أنها تعمل على تنظيم مناخ الأرض وامتصاص ثاني أكسيد الكربون. وإذا لم نحافظ على هذه الموارد، فإننا سنفقد هذه الفوائد المهمة'.

لذلك ترى من جهتها أن المحافظة على البيئة البحرية وكائناتها من خلال تقليل التلوث البحري وتنظيم عمليات الصيد والمحافظة على المناطق البحرية المحمية، هو واجب لحياة الإنسان نفسه المرتبطة بمحيطه، ولهذا اعتبرت أن 'المحافظة على البيئة البحرية ليست مسؤولية فردية، بل هي مسؤولية جماعية يجب أن نتحملها جميعاً من أجل مستقبل أفضل لكوكبنا والأجيال المقبلة'.

ومن المفارقات وفق 'ناشيونال هستوري ميوزيم' البريطاني، أن القناديل بين كائنات البحر الأكثر قابلية للحياة والخلود. وفسرت في مقالة علمية لها نشرت على موقعها الإلكتروني لماذا اتخذت القناديل مساراً لها بجوار سفينتنا الذي ظننا أنه جاء صدفة، كأنها تعبر عن امتنانها لفريق المهمة.

وتقول 'يعتقد أن قناديل البحر الخالدة نشأت في البحر الأبيض المتوسط، لكنها الآن توجد في المحيطات حول العالم، يرجح أن هذا الانتشار الملحوظ أخيراً قد يكون ناجماً بصورة رئيسة عن النشاط البشري'.

الراكب الخفي

لكن الأكثر طرافة وحساسية في الوقت نفسه تأكيدها أن هناك 'نظرية شائعة تشير إلى أن السفن مسؤولة عن توزيع هذه الكائنات على نطاق واسع عبر محيطات الأرض، فخلود قناديل البحر يجعلها مسافرة مميزة على متن السفن'.

وشرحت ذلك بأن ضخ 'مياه الصابورة' التي توظف عادة داخل السفن وخارجها مثل سفن الشحن والسفن السياحية للحفاظ على الاستقرار، 'من المحتمل جداً أن تسحب قناديل البحر الخالدة مع هذه المياه وتتمكن من البقاء على قيد الحياة أثناء عبور المحيطات بفضل قدرتها على عكس دورة حياتها عندما تواجه ضغوطاً، مثل نقص الطعام'، مما يعكس جانباً نادراً من احتماء الكائنات البحرية بالمجتمع الإنساني الذي ظل يهددها من دون شعور أحياناً!

كانت السعودية، وفقاً للرئيس التنفيذي للرقابة على البيئة فيها علي الغامدي، بدأت تنفيذ هذه التمارين قبل ثلاث سنوات، لكنها فقط هذه المرة 'تمكنت من رفع القدرة التشغيلية للاستجابة إلى 75 ألف برميل يومياً، مع التطلع إلى رفع الرقم لنحو 125 ألف برميل في التمارين المقبلة'، وصولاً إلى المستهدفات الوطنية الطموحة لبلد هو المنتج الأكبر للنفط في العالم بعد أميركا، ويمر عبر ممراته المائية الاستراتيجية والقريبة نحو 30 مليون برميل يومياً.

ويعد البحر الأحمر واحداً من أكثر النظم البيئية المائية تفرداً على مستوى العالم، إذ يزخر بتنوع بيولوجي نادر وثروات طبيعية لا حصر لها من الكائنات، إلى جانب وجهات سياحية وجزر خلابة تعول عليها السعودية لتنويع اقتصادها، مثل 'نيوم' ومشاريع 'البحر الأحمر' الدولية.

كما يجعله موقعه الجغرافي الذي يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا ممراً رئيساً للتجارة العالمية، إذ تمر عبره 12 في المئة من التجارة البحرية العالمية ونحو 40 في المئة من التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، مما يعزز مكانته كمحور لوجستي وجيوسياسي بالغ الأهمية.

يأتي التمرين في ظل تزايد التهديدات البيئية، كان أبرزها استهداف جماعة الحوثي للسفينة التجارية 'ماجيك سيز'، مما أدى إلى أضرار وخطر تسرب نفطي، وسط تحذيرات بريطانية وأميركية ودولية من أن الهجوم يمثل تهديداً للأمن البحري العالمي والثروة السمكية في المنطقة.