اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٤ تموز ٢٠٢٥
د. حسان صبحي حسان*
في حياتنا هناك لون واحد كما هو الحال في لوحه الفنان، والتي توفر معنى الحياة والفن، إنه لون الحب 'مارك شاغال'، لأنه قلب صادق قادر على إيصال الصوت والصدح بمضامين تحتاج الإمعان والتفكير، عبر شريط سينمائي أمام أعين المتلقين، مثلت التجارب الإبداعية للفنان 'هاني ررزق' إرهاصاً مهماً محفزاً لشحذ مسعى شعري ولغة صورية ذات تفرد بنزوع فريد نحو التبسيط الاختزالي لشاعر قبل أن يكون فناناً بصرياً، ينسج خيوطه الشعرية التي تدثر ثوب الفكرة لديه، ويغذيها من العوالم الصافية والتي انتقاها بمجهر الصدق والجدية لينجز ويبتكر ويشرق أكثر بالفكرة والفن لتكوينات حداثية منطلقها المفاهيمي تحرير الواقع من أكباله وتخليص مخيلة الفنان من براثن الواقع، والاحتفاء بجماليات التركيب والتحوير والتلخيص وطاقة التعبير بغرض التحديث الذي يؤطر الجوهر والمكتنز الذي ينتفض من التفاصيل الزائدة، وتحريف يجيش الاقتناص المشاهد لواقع نفسي أعمق للإفصاح عن مكنوناتها الداخلية، من خلال تضفير هارموني لعناصر منطلق حضورها إعلاء الشعري الحسي حسب مقتضيات المفاهيم الفنية والفلسفية.
فلم تتوازَ تأليفاته الفنية وتتماس مع الواقع الذهني الملموس الذي يشكل جزءاً من المحيط الواقعي أو تصدير ارتجالات فنية سريعة تحاكي المرئي وتمثل الأشياء كما هي في العالم الحقيقي -بل انطلق الفنان 'هاني رزق' منذ بواكيره الفنية نحو تقديم اللامألوف وتصدير مشاعر من أعماق نفس شخوصه ونوازع الذات، عبر تحطيم أفق التوقع للمشاهد، وتشييد حداثته الخاصة وتجسيد شغفه وتشكيل كينونته التي تغذت من رحيق الشعرية والمنبثقة من الأحلام لقطع كل الصلات بالواقعي الظاهري السطحي وأنماط الهاجس الجمالي القديم، لتلمس شعرية مرتكزة على أعمدة الحلم وسلطة اليقظة النابضة التي تشبعت بها ذاته بنظرة متأملة تستوحي كوامن نفسه مغلفة بروحانية ورهافة حس تتسق مع منظوماته الأدبية الشعرية ذات الشحنات والتوجهات المفعمة بالتعبيرية.
وضمن سعيه الحثيث الصادق لتسطير عوالم أسطورية خاصة ذات طوابع مقدسة، عبر خلطة فنية تشبه المنظومات الشعرية الرصينة والقصائد ذات الثراء الاستعاري الموسيقي، واللغة البصرية المقدسة تخلى 'هاني رزق' عن زوايا الرؤية المنظورية وأصبحت أطروحاته الفنية ذات نسق متحرر من الحواجز التى تفصل بين الماضي والحاضر، فضلاً عن الجمع بين أمكنة وأزمنة متباينة في العمل نفسه، وتحركت عناصره منفردة تهمس إلى ذاتها وتصغى لأصوات عوالمها، مصاحبة لعناصر أخرى ونوافذ مفتوحة وشخوص تعزف لهم الموسيقى وتشاركهم المرح والانطلاق والصخب، في بيئات يتحاور فيها الحصان مع الدراجة والبنت والولد مع حيوانات وديعة وطيور صادقة وزهور وأوراق النبات والأشجار والبحيرات والأسماك، وتنزه في مراكب نيلية، وعلى شواطئ الأنهار، ويظهر الأطفال محلقين مع البالونات الملونة والطيور ووسط النجوم التي ترصع فضاءاته الحالمة، وداخل البيوت في علاقات الدفء والاحتواء والأمومة.
وفي اختلافه عن أقرانه وسائر فناني جيله، عبر مسعاه الشعري واللغة الصورية التعبيرية، ولعدم اقتراب أحد آخر من الفنانين من تجسيد حياة الفرح واللون والحب مثل الفنان 'هاني رزق'، ينبري العالم الفني له من خلال أشروحاته التي (انطلقت من الواقع لإعادة تشكيل المفردات والعناصر وبثها داخل فضاءات من الدال والمدلول ومستويات سيمولوجية عميقة وبراءة فلسفية تتوشح بالبعد الروحي) لتدشين قوة مغناطيسية تجتر مشاعر المتلقي لمناطق وأحاسيس ومجريات خاصة داخل منظوماته التعبيرية التي تعكس مدي امتصاصه لرحيق القيم الحضارية في الفن المصري القديم واستردافها خلال عبوره إلى آفاق الحداثة- وتوضح التأثيرات الواسعة التي يمكن أن يوجهها الفنان من خلال (تكثيف تملؤه هويته وحياته وشغفه وحبه، عبر لغة الرسام الشاعر الذي يسطر قصائده البصرية النابضة والأبيات الشعرية الغنية بالاستعارات) التي تترجم بالوسائط والخطوط والألوان التي يجسد بواسطتها أحلامه وأحاسيسه وأماله.
ونحو ابتكار عوالم استهامية حقيقية ونبذ الواقع والجنوح نحو الحلم والتحليق في عوالم اللاشعور، وبعيدًا عن المناخات الواقعية سعي الفنان خلف إمكانيات ووظائف الخط (كتحديد الاتجاه والأشكال والهيئات، والحد الفاصل بين الأسطح والمساحات اللونية، وتحديد الفراغ وحصره، وإنتاج الأشكال وذلك بتكاثر الخطوط واتجاهاتها، والتحكم في مناطق الفاتح والغامق وتنويع القيمة الملمسية، وتعزيز الفعل الحركي، وتحقيق السيادة ووحدة التكوين)، واستثمار مخططات اللون عبر مستويات من 'الزاهي' الذي يمثل أصل اللون وصفته كلون أولى، 'والمضيء' كدرجات لونية تنتج من إضافة الأبيض لتعزيز قوة وشدة اللون، 'والقاتم' الذي ينتج من إضافة الأسود لخفض القوه والشدة، 'والباهت'من إضافة درجات الرمادي والأبيض إلى اللون المضيء، 'والشاحب' من إضافة درجات الرمادي والأسود إلى اللون المضيء، لينحو بعيدًا عن قضايا الزخرف وتقليدية معالجة الأسطح لصالح الفكرة وإعلاء طاقة التعبير.
لقد تحول أسلوب الفنان 'هاني رزق' لكيان مرتكز على أسانيد الخيال الجامح والتلقائية لإبراز طاقة التعبير والفكرة الجوهرية، عبر ابتداعه للغته التي تهجر مألوفية العمل وتزيح القيم الراسخة الاستهلاكية، وتعلي وسائل فنية جديدة للتعبير تنحو عن تشخيص الواقع عبر تجريد الفكرة من رقابة الذهن والحلول الاعتيادية لصالح التحديث المحتفي بعمليات المبالغة والتحريف والاختزال وذلك على المستوى الفكري والتقني والأدائي، بما يحقق الدهشة للمتلقي والتي تتجاوز الذهنية لتلمس الوجدانية والداخل، وإعادة ترتيب الواقع بطريقة مختلفة تعبر بعمق وصدق عن مشاعر الفنان وذاته الإنسانية التي تترجم قدرته على السيطرة علي وسائطه مع التأكيد على شخصيته وهويته، في مخالفة للخطابات العقلية المعتادة ذات المتواليات الذهنية والمعالجات الخاوية من شحنات التعبير ووهج الفكرة.
*الأستاذ بقسم التصميمات
البصرية والرقمية المساعد