اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣٠ حزيران ٢٠٢٥
الرياض - صلاح القرني
في مغامرة أدبية جديدة تتقاطع فيها الهوية بالسياسة، والماضي بالحاضر، والأدب بالفلسفة، صدرت حديثًا عن منشورات «إبييدي» في مصرـ رواية «البحث عن مصطفى سعيد» للكاتب السوداني عماد البليك، في طبعتها الأولى لعام 2025، تحاول الرواية الغوص في أثر شخصية مصطفى سعيد – البطل المحوري لرواية الطيب صالح الخالدة «موسم الهجرة إلى الشمال» – لكن ليس بإعادة كتابة النص، بل بتأمل الظلال التي خلّفها، ورصد ما إذا كان لهذه الشخصية أن تُبعث من جديد في زمن يتفجر فيه السودان على أكثر من مستوى.
السرد بوصفه بحثًا يقوم العمل على بنية سردية تأملية تعتمد على راوٍ يُدعى «محمود»، ينتمي لجيل مغاير عن جيل مصطفى سعيد. محمود شخصية مهزوزة، حائرة بين انتماءاتها الفكرية وعلاقاتها العاطفية، لكنها تعود في كل لحظة إلى تلك الصورة التي شكّلتها شخصية مصطفى سعيد في اللاوعي الجمعي السوداني.
يبدأ الراوي بطرح سؤال وجودي: «هل كان مصطفى سعيد حقيقيًّا؟ وإن كان، فماذا تبقى منه فينا اليوم؟»
من هذه النقطة، تنفتح الرواية على مسار من البحث المعنوي والفلسفي، في محاولة لفهم التحولات الكبرى التي مرّ بها السودان منذ استقلاله وحتى الحرب الأهلية الأخيرة.
لا تسعى الرواية إلى تقديم أجوبة بقدر ما تُراكم الأسئلة، وتعرض مشاهد من التفكك، والخذلان، والتداخل بين الفرد والتاريخ.
نص ما بعد الطيب صالح؟
منذ عقود، ظلت شخصية مصطفى سعيد رمزًا للأنا السودانية التي اصطدمت بالغرب، بالاستعمار، بالهوية المشروخة. لكن عماد البليك، في هذا النص، لا يكتفي بترديد ذلك الأثر، بل يجرّد سعيد من قدسيته الروائية، ويطرحه كسؤال سياسي وأخلاقي: هل كان مصطفى سعيد مشروعًا نرجسيًّا فرديًّا؟
أم مرآة لهزيمة وطن لم تُحسم بعد؟
هكذا، تدفع الرواية القارئ إلى مقارنة مزدوجة: بين الماضي الروائي وبين الحاضر الواقعي، وبين شخصية سعيد الأصلية، و»أشباهه» في هذا الزمن من الشتات والانهيار.
الزمن المحترق: ما بعد الثورة وما بعد الخراب
لا تغفل الرواية، في مسارها، الاشتباك مع السودان الراهن، بدءًا من الثورة الشعبية في ديسمبر، ثم فضّ الاعتصام، مرورًا بانقلاب 2021، وانتهاء بالحرب الطاحنة في الخرطوم ومناطق أخرى.
تستدعي الرواية مشاهد الحرب والدمار، ليس بوصفها حدثًا سياسيًا، بل كمرآة للانكسار الروحي والفقد الجماعي.
تمثل شخصية محمود ذلك الإنسان العالق بين خيارات مستحيلة: المنفى أو الجنون، الصمت أو الصراخ، الكتابة أو العزلة. وفي خلفية المشهد، لا يغيب صوت مصطفى سعيد، لا كفاعل وإنما كأثر، كعبء، كماضٍ لا يُدفن بسهولة.
نص متعدد الطبقات
أسلوبيًّا، يمزج عماد البليك بين التأمل الفلسفي، والتحليل السياسي، والتقنيات السردية الحديثة، في نص يعتمد على اللغة الرصينة، والإيقاع البطيء المدروس.
تكثر الإشارات إلى نصوص أخرى، خاصة «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولكنها إشارات واعية، تنتقد بقدر ما تستعيد.
الرواية لا تُصنّف بسهولة: فهي ليست تاريخية، ولا بوليسية، ولا حتى مجرد رواية فكرة. إنها نص متعدد الطبقات، يراوغ التصنيف، ويُراهن على قارئ غير كسول، قادر على تتبّع الشبكات المعنوية الكامنة بين الشخصيات، الأحداث، والأسئلة الكبرى.
أما لوحة الغلاف، جاءت لتعكس في ألوانها الباردة والصورة المزدوجة على الغلاف، الانقسام بين الواقع والذاكرة، الشرق والغرب، الرجل والظل.
عماد البليك كاتب وروائي سوداني معروف، صدرت له عدة أعمال روائية سابقة تناولت قضايا الهوية والتاريخ والسودان الحديث، أبرزها: «شاورما»، «دماء في الخرطوم»، ويحمل في كتاباته همًّا مزدوجًا: الحفاظ على التجربة الأدبية السودانية الأصيلة، وتوسيع أفقها لتواكب المأساة المعاصرة.
في نهاية المطاف، لا يمكن اعتبار «البحث عن مصطفى سعيد» مجرد تناص مع شخصية من رواية سابقة. إنها مرافعة أدبية طويلة في وجه النسيان، محاولة لاجتراح موقع جديد للذات السودانية في زمن القتل والنزوح، والبحث عن معنى في ركام الخراب. وكما يقول الراوي في إحدى الصفحات: «ربما لم يكن مصطفى سعيد سوى الاسم الأول للخسارة... ونحن الأسماء التالية.»