اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة مكة
نشر بتاريخ: ١٨ أب ٢٠٢٥
مكة - مكة المكرمة
في ساحة ميادين الدرعية المفتوحة، وبين مشاهد تُجسّد إرث المكان وتطلعات الحاضر، لم يكن عرض 'ترحال' مجرد حدث مسرحي عابر؛ بل تجربة حسية غامرة عاشها الجمهور بكل جوارحه. فالعرض القائم حتى 25 أغسطس، لا يُقدم المسرح كما نعرفه، بل يخلق عالماً يتقاطع فيه التمثيل مع الضوء بما فيه من مؤثرات حسية، والحركة مع الشعور، والموروث مع التقنية، في رحلة تجعل الجمهور شريكاً حقيقياً في القصة.
منذ اللحظة الأولى، بدا 'ترحال' يستنطق الذاكرة ويثير المشاعر، متجاوزاً التأثير البصري؛ فالجمهور لم يكن متفرجاً تقليدياً؛ بل كان مغموراً بالمشاهد، مشدوداً مع البطل 'سعد' في رحلته الرمزية من عمق التراث السعودي الممتد بين البحر والصحراء والجبال، ومن الحِرف إلى الغناء، ومن الأحلام إلى الجذور.
هذه التجربة لم تترك أثرها في الجمهور فحسب، بل أثارت أيضاً إعجاب نقاد ومؤلفين ومختصين في فنون العرض.
الكاتبة المسرحية غزوه المنصور علّقت على التجربة قائلة: 'ترحال لم يقدّم مشاهد مسرحية فقط، بل فتح نافذة عاطفية للذاكرة، شعرت أن العرض يَكتب سيرة الوطن بلغة المشاعر، لا بلغة الوثائق، سعد كان المرآة، وكل مشهد هو سؤال عمن نكون، ومن نريد أن نكون؟.'
كما قال الكاتب المسرحي عبد الكريم القاسم: 'النص البصري في ترحال قوي ومدروس، حتى مع اعتماده بالدرجة الأولى على الحركة أكثر من الحوار، هناك سرد شعوري يجري في الخلفية، يقوده الضوء والصوت والحركة بتناغم نادر، كنت أتابع العرض وكأني أقرأ نصاً حياً يُعرض على الخشبة.'
أما المتخصص في صناعة المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية حسين الخاتم، فقد ركّز على البُعد السمعي للتجربة، قائلاً: 'الصوت في ترحال لم يكن مكمّلاً للصورة فقط، بل كان عنصراً سردياً بحد ذاته، من المؤثرات البيئية إلى تداخل الإيقاعات المحلية والموسيقى التصويرية، كل تردد صوتي كان محسوباً ليحاكي شعوراً معيناً، إنها هندسة صوت تحكي الحكاية بطبقات خفية.'
ومن جانب آخر، أشاد المتخصص في تصميم الإضاءة والسينوغرافيا مرتجى حميدي بالبناء البصري والتكوينات المسرحية قائلاً: 'من المذهل كيف استطاع العرض استخدام الفضاء المفتوح في قاعة ميادين الدرعية لصنع مشاهد تنبض بالحياة، دون أن يفقد الانضباط البصري. كل لوحة كانت مدروسة من حيث الإضاءة، والحركة، وتوزيع العناصر، وكأننا أمام سينوغرافيا مرسومة بدقة على ساحة مسرحية غير محدودة.'
ويظهر تفاعل الجمهور في كل تفاصيل الليلة؛ من التصفيق التلقائي عند المشاهد التراثية، إلى لحظات الصمت والتأمل عند المشاهد الرمزية العاطفية، وقد وثّق كثير من الزوار تجربتهم عبر وسائل التواصل، مشيرين إلى أنها 'ليست مجرد مسرحية، بل ذكرى وطنية حيّة'.
إن ما يميز 'ترحال' ليس حجم الإنتاج والتقنيات المستخدمة فقط؛ بل نجاحه في بناء علاقة حقيقية مع الجمهور، علاقة يتخللها الحنين والفخر والدهشة، وهو ما يثبت بأن المسرح السعودي ليس مجرد فن يتكون من منصة وجمهور، بل هو مساحة مشتركة تُحلق بالمتلقّين وسط عمق الحكاية ليكونوا هم الأبطال للقصص المحكية.