اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
أكثر من ثلاثة ملايين يورو جُمعت تحت راية «الأسطول العالمي للصمود»، بزعم كسر الحصار عن غزة وإيصال المساعدات الإنسانية. ثم تغيّرت السردية، وأصبحت غاية القوافل إرسال رسائل رمزية للكيان الصهيوني ليحترم القانون الدولي.
نظرة إلى توزيع النفقات تكشف مفارقة موجعة: مئات الآلاف صُرفت على الوقود والمؤن ورسوم الموانئ والتأمين والإعلام والدعم القانوني، بينما لم يصل شيء يُذكر إلى الفلسطينيين المحاصرين. في وقتٍ يموت فيه الأطفال جوعًا وتحت الركام، تُستهلك الملايين في وقود السفن والكاميرات وخطب المرافئ الأوروبية، بين حضور مطبّع وآخرين «صهاينة ليبرال» يستنكرون الإبادة لكنهم متمسكون بشرعية الكيان. ثم تتفجّر موجات التعاطف حين يهدد الاحتلال باعتراض قارب أوروبي، فيتكرّس معيار إنساني يرى الخطر الغربي أهم من الدم الفلسطيني.
الضجيج الإعلامي المرافق لهذه الحملات يبدو كوسيلة لإبقاء القضية في الوعي، لكنه غالبًا يخفي خلل البوصلة. فبعد أن كان الهدف كسر الحصار، أصبح الغرض «رسالة رمزية»، وتحوّل شعار «تحرير فلسطين» إلى شعارٍ مرن يرضي الجميع. يرفع كثيرون شعار التحرير بشروطٍ تُبقي الكيان مقبولًا في الإقليم، ويقترحون «تعايشًا» بين المستعمِر والمستعمَر، كأن العدالة تُبنى فوق الأرض المسروقة.
المطبّعون الذين يتهمون المقاومة بالإرهاب يسعون من خلال مغامراتهم البحرية إلى التقليل من ضرورتها، وترسيخ فكرة أن النضال السلمي وحده هو الطريق «الشرعي» للتحرر، متناسين أن السلمية لم تكن يومًا بديلًا عن الكفاح. وقد كُشف أن بعض المشاركين في أساطيل أخرى يملكون جوازات إسرائيلية، من دون أن تُسلّط الأضواء على ذلك.
المشكلة أن الدعم يتحول إلى نقاشٍ دبلوماسي لإصلاح سياسات الاحتلال بدل إنهائه، فتُعاد صياغة القصة بما يُضعف مطلب السيادة وشرعية المقاومة. وبعض المنابر التي تتبنّى هذه الخطابات لا تخلو من الازدواجية؛ فغريتا ثونبرغ نفسها، التي أُشير إلى مشاركتها الرمزية، وصفت «طوفان الأقصى» بالجريمة، في تناقضٍ بين ادعاء التضامن وتبنّي لغة الكيان.
كما أن الاستنجاد بالقانون الدولي بات لغة مريحة تُخفف من وطأة الكفاح، وتحول التحرير إلى نقاشٍ دبلوماسي حول الإجراءات بدل الصراع مع المشروع الاستعماري. وفي هذا السياق، تسارعت غريتا إلى نفي أي صلة لها بالمقاومة قائلة: «لسنا مع حماس» و«لسنا إرهابيين»، خاضعين لقاموسٍ يبرّر الاحتلال ويستنكر حراك المقاومة.
استخدام المؤثرين والمشاهير من خارج أوروبا لتوسيع الصدى الإعلامي أصبح أداة اتصالية أكثر من كونه التزامًا بالقضية. فكثيرون ممن كانت نيتهم صادقة جرى استدراجهم بلا شفافية، ليجدوا أنفسهم أدواتٍ في مشروعٍ يُعيد إنتاج الهيمنة التي زعموا رفضها. وهكذا يُختزل التضامن إلى مشاهد رمزية تُستثمر فيها الصور لحصد التعاطف، وفتح باب للاسترباح، حيث تُباع صورة التضامن كمنتجٍ إنساني في السوق الإعلامي، وتتحول الإبادة إلى سلعة، ويُباع الفكر الإنساني تحت شعارات شركاتٍ رأسمالية، فتُعلّق صور الناشطين على لافتاتٍ تجارية تستخدم المعاناة وسيلةً للدعاية. هكذا تفقد التضحية معناها، وتدخل في دوائر العلاقات العامة أكثر مما تدخل في دوائر التحرير والنضال.
وفي النهاية، يعود من ركبوا البحر كما ذهبوا، دون أثرٍ حقيقي على حياة الفلسطينيين. «تيتي تيتي، مثل ما رحتي جيتي»، تلخّص مشهد الاستعراضات التي لا تغيّر سوى صورة أصحابها في المرايا. تبقى فلسطين تحت النار، وتُطمس مطالب العودة والسيادة خلف لافتاتٍ براقة.
التضامن الحقيقي لا يكون بالعروض البحرية ولا في خطاب صهيوني ليبرالي يشكك في المقاومة دون نقد البنية الاستعمارية لدى الكيان، بل بموقفٍ صريح ضد شرعية الاستعمار ووجوده في المنطقة، يتبنّى حقوق الشعب الفلسطيني كاملة. فالتحرير لا يقاس بعدد الأشرعة في البحر، بل بعدد القيود التي تُكسر على اليابسة.
طارق الخضري