اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٢٧ أب ٢٠٢٥
من تأمّل مسيرة الأمم علمَ أن عظمتها لا تُقاس بما تجود به الطبيعة من ثروات، بل بما تصنعه هي من أسباب القوة والدوام. فالمعادن تُستنزف من باطن الأرض، والآبار قد يجف ماؤها، والموارد مهما عظمت تظل رهينة للنقص والتقلب، أما العقول إذا أُحسِن استثمارها، والسواعد إذا أُطلقت لها ميادين العمل، فإنها وحدها التي ترفد الأوطان بما لا ينفد.
ومن هذا المنظار، يتبدّى المشهد الكويتي بوضوح أشد، فما عاد توصيف اقتصاده بالريعي مجرّد قولٍ عابرٍ يتردّد في الكتب والدراسات، ولا توصيفاً نقدياً تلوكه بعض النخب في مجالسها، بل صار حقيقةً متجذّرة، تنبض في مفاصل الحياة اليومية، وتترك بصمتها على علاقة المواطن بدولته، وعلى صورة الإدارة العامة ومؤسساتها.
فالاقتصاد الريعي، بطبيعته، لا يُبنى على عرقٍ يتصبّب في الورش والمصانع، ولا على عقولٍ تُبدع وتبتكر في ميادين الإنتاج، بل يقوم على مورد واحد يفيض بعوائده من الخارج، ثم يُعاد توزيعه في الداخل بروحٍ مركزية، تُغني عن السعي، وتُقصي الحاجة إلى البناء الذاتي.
وفي الحالة الكويتية، كان النفط هو المورد الذي أسّس لعقودٍ من الرفاه واليسر، وأقام عقداً اجتماعياً فريداً بين الدولة والمجتمع، غير أنّه، مع توالي السنين، صار يزرع بذور عللٍ صامتة وأزماتٍ متراكمة، تلوح اليوم بوادرها واضحة، وتدعو بلسان الحال والمقال إلى إصلاحٍ عميق يعيد الاعتبار للإنتاج والعمل، ويصون للأمة توازنها واستمرارها.
يتدفّق ريع النفط إلى خزائن الدولة، ثم يُعاد ضخه في عروقها وعروق المجتمع على هيئة رواتب ومعاشات، ودعمٍ وإعانات، ومناقصات وممارسات، وأوامر شراء وأشباهها، حتى غدت جلُّ القوى العاملة في الوطن، في القطاعين الحكومي والخاص، رهينةً بقدرة الدولة على الإنفاق من هذا المورد الأوحد. ولئن كان إجمالي الناتج المحلي ـ في أبجديات الاقتصاد ـ يقوم على أربعة أركان: الإنفاق الحكومي، والاستثمار، والاستهلاك، وناتج الصادرات النفطية وغير النفطية، فإن واقع الكويت لم يُفعّل من هذه المعادلة إلا ما ارتبط بالإيرادات النفطية، إذ اتكأ على أركانٍ ثلاثة هي: الإنفاق الحكومي، والاستهلاك، وناتج الصادرات النفطية، فكانت أجنحة هشّة تتسع مع وفرة الأسعار وتضيق مع انحسارها، فلا ثبات فيها ولا استدامة. أمّا الاستثمار الحقّ المنتج، وناتج الصادرات غير النفطية، فهما الركيزتان الباقيتان القادرتان على حمل الاقتصاد إلى برّ الأمان، وهما الدرب الذي سلكته قلّة نادرة جداً من مؤسسات القطاع الخاص، إذ وجدت في التوسّع في التصدير إلى الخارج، أو تقليص التوريد إلى الداخل، أو الجمع بين المسلكين، سبيلاً للتحرّر من أسر تقلّبات النفط ومن أثقال سياسات التقشّف، بينما بقيت سائر المؤسسات أسيرة دائرة «الاستهلاك» المحصورة في قبضة «الإنفاق الحكومي»، لتستنزف، بطبيعتها، وبواقع البيئة الاقتصادية، «ناتج الصادرات» عبر تعظيم واردات الدولة غير النفطية.
لقد تمخّضت تلك المعادلة، على امتداد عقودٍ طوال، عن واقع اقتصادي واجتماعي، أخذ يتشكّل شيئاً فشيئاً، حتى انطفأ فيه وهج الصلة بين الإنتاجية والدخل، فلم يعد الإتقان في العمل، ولا الجدّ في الأداء، ركناً راسخاً في الاستقرار الوظيفي، وغدت الموالاة وتبادل المنافع في كثير من الأحيان هما السبيل الأيسر للترقّي والصعود، وذلك رغم أن العمل كان وما زال معياراً إلهياً قبل كونه اقتصاديًا، استشهاداً بقوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة: 105). ومع تتابع السنين، ارتفع هرم إداري بُني في جانب من جوانبه على أعمدة الولاءات، واشتدّ تماسُكه بقدر ما ازداد اعتماد القواعد العريضة من الموظفين على ما يفيض من موارد الريع. وهكذا تراجعت الحوافز للعمل المجدّ، وظهرت أنماط من التسيّب والتراخي، حتى غدت تلك الظواهر جزءاً من ملامح البنية الاقتصادية والاجتماعية، تتجلى آثارها في تدنّي الخدمات، وتراجع كفاءة المؤسسات، وفي ضعف البيئة، التي تحتضن المواهب والكفاءات المبدعة.
غير أنّ هذا الواقع ـ وقد تراكم عبر عقود من الزمن ـ لم يغب عن بصر الدولة، ولا عن بصيرتها، إذ التفتت أجهزتها في الآونة الأخيرة إلى ما استقرّت عليه الحال من مساوئ، ورأت أن معالجته لم يعد ترفاً فكرياً ولا خياراً مؤجَّلاً، بل تجسّد امتثالاً لواجبٍ شرعيٍّ، قبل أن يُحتسب التزاماً وطنيّاً يقتضي الحزم، استجابةً لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (النساء: 58). فجاءت قرارات مجلس الوزراء الأخيرة شاهدة على إدراك عميق بأن إصلاح البنية الاقتصادية لا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار للكفاءة والإنتاجية، وإنصاف الطاقات المخلصة، وصوغ بيئة جديدة قادرة على أن تُعلي من شأن الجدّ والإبداع، وتستعيد للوطن توازنه واستدامته، مستندة إلى إدراك عميق بأن الكويت، وهي تواجه تحديات مالية غير مسبوقة، لم تعد تملك ترف الانتظار أو المراوحة في مكانها. لقد أضحت المسؤولية الوطنية تقتضي، وأصبحت الإرادة السيادية توجب، أن يُعاد توجيه دفة الاقتصاد نحو أفق الاستدامة، ليغدو قادراً على تحصين الدولة من تقلبات الأسواق، وحامياً لكرامة الأجيال القادمة وحقوقها.
فينهض التساؤل: أَيُعقَل أن يظلّ استقطاب الكفاءات النادرة، وارتقاء معدّلات الإنتاجية، رهين مبادراتٍ متفرّقة، وقراراتٍ مجتزأة، تُتَّخذ في هذا القطاع أو ذاك على نحوٍ فرديٍّ محدود؟ أم أنّ الأجدر والأولى أن يُبنى صرحٌ اقتصاديٌّ متكامل الأركان، قاعدته راسخة في جعل الإبداع ثقافةً لا عارضة، والإنتاجية شرطاً لازماً لا مُستغنى عنه، بحيث يغدو البذل والإتقان مطلباً طبيعياً لاستمرار المؤسسات، وميزاناً قسطاساً لازدهارها وبقائها؟
وهنا يطلّ السؤال بوجهه الجادّ: أما آن للأمة أن تبتكر أداة مؤسسية، مؤطّرة بتشريع محكم، تُخرج الإرادة السيادية من فضاء الأماني إلى ساحة العمل الملموس؟ أما آن لمقترح إنشاء «الهيئة العامة لدعم ناتج الصادرات غير النفطية» أن يُعرض على بساط النظر، هيئة مستقلة تنهض بسياسات راشدة وخطط سديدة، تُقوّي عود الإنتاجية الوطنية، وتشرع لها أبواب ناتج الصادرات، وتفك عنها ـ رويداً رويداً ـ أغلال التبعية لمال الدولة؟ أوليس في مثل هذا الكيان ما يُدخل لأول مرة آليات قياس محكمة، تزن بالأرقام لا بالأهواء، نصيب القطاع الخاص في جسد الاقتصاد الوطني، عبر مؤشريْن بيّنين: أحدهما لناتج الصادرات غير النفطية، والآخر لمقدار اتكاله على موارد الدولة؟ ثم أليس أوفق وأعدل أن تُموَّل الهيئة من إيرادات ضريبية رمزية، ينهض بها القطاع الخاص عامة، ويُعفى منها مَن اختار طريق الاستدامة، فاتخذ من التوسّع في التصدير، أو تقليص التوريد، أو الجمع بينهما، نهجًا للاستمرار؟ ليغدو ما يفيض من تلك الإيرادات رافداً يُصبّ في خزينة الدولة، تحت عنوانٍ كريمٍ هو الإيرادات غير النفطية.
فبهذا المسلك الرشيد يغدو النجاح الاقتصادي رهيناً بقدرة المؤسسات على أن تُبدع وتنتج، وأن تنفذ بسلعها وخدماتها إلى الأسواق الرحبة، لا بقربها أو بعدها من موارد الريع ومنافذه الضيقة. ويغدو المواطن، في ظل هذه الرؤية، على يقين راسخ بأن رفاهيته واستقراره لا يُبنيان على تقلبات سعر برميل النفط، صعوداً وهبوطاً، وإنما يستندان إلى قاعدة صلبة من اقتصاد حقيقي، منتجٍ ومتنوع، قوامه العمل والإبداع والتصدير. إنها معادلة جديدة تُعاد بها صياغة العقد الاقتصادي والاجتماعي بين الدولة وأبنائها، قائمة على شراكة واعية بين القطاع العام والقطاع الخاص، تتقدّمها إرادة سيادية مدركة أن دوام قوة الكويت وعزتها وازدهارها لا يتأتى إلا عبر اقتصاد متين متنوع، مستدام في موارده، عادل في عطائه، صامد في وجه تقلبات الزمن وعواصف الأسواق.
إن إنشاء هذه الهيئة لا يُعدّ مجرّد إضافة بيروقراطية إلى هيكل الدولة، ولا زيادة عددية في جسد المؤسسات، بل هو في جوهره إعلان صريح عن تحوّل استراتيجي بالغ العمق والدلالة، انتقال من اقتصاد ريعي استهلاكي طالما شدّ الوطن إلى الخلف، إلى اقتصاد إنتاجي تنافسي يفتح له آفاق المستقبل الرحبة، انتقال من الارتهان لمورد وحيد يتقلّب مع رياح الأسواق صعوداً وهبوطاً، إلى تنويع حقيقي لمصادر الدخل، يضمن الاستقرار، ويحمي الأجيال من عواصف الغيب، انتقال من ثقافة الموالاة والمجاملات التي أوهنت البنية، إلى ثقافة الكفاءة والجدارة التي ترفع البنيان وتشدّ أركانه. إنها ليست هيئة في ظاهرها فحسب، بل هي تعبير ناطق عن استراتيجية عازمة تسعى إلى تحقيق رغبة سيادية واعدة، غايتها أن تدرأ عن الوطن مخاطر الاعتماد الأحادي، وتُسلِم الأمانة إلى الأجيال القادمة وطناً قادراً على الصمود، ثابت الأركان، حرّ الإرادة، لا أسير تقلبات النفط، ولا رهينة نزوات الأسواق.
إن الكويت اليوم تقف عند مفترقٍ حاسمٍ من طرق التاريخ، فإما أن تعود إلى استنساخ ماضيها بما حمله من عللٍ وأزمات، فتظل تدور في الحلقة ذاتها التي أنهكت مواردها وأرهقت بنيانها، وإما أن تختار أن تمضي في درب جديد يليق بمكانتها بين الأمم، ويوازي تاريخها المجيد، ويؤسس لمستقبلٍ أرحب. وفي هذا الدرب المنشود، تبدو «الهيئة العامة لدعم ناتج الصادرات غير النفطية» خطوةً محوريةً، لا تُقاس بمقياس القوانين الإجرائية، ولا تُختزل في نصوص تشريعية فحسب، بل تُعدّ إيذاناً بعقدٍ جديدٍ بين الدولة ومجتمعها، يجعل من الاستدامة ركناً أصيلاً في البناء الاقتصادي، ويجعل من الإنتاجية والجدارة عنواناً لمستقبل أشد صلابة، وأوفى إنصافاً، وأقرب إلى طموحات الأجيال، التي تتطلع إلى وطنٍ آمنٍ من علل الاعتماد، مبرأٍ من أوجاع التكرار، ماضٍ في بناء اقتصاد متين يعيد للكويت مكانتها في الريادة والازدهار، فذلك هو المسار الذي إن سلكته الكويت، حفظت لنفسها دورها ومكانتها، وصانت للأجيال وعد المستقبل المشرق.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً...
عبدالله السلوم