اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٢٩ أيلول ٢٠٢٥
أمجد جمال
اكتسب فيلم One Battle After Another في الأسابيع الأخيرة زخماً إعلامياً كبيراً. نتيجة سلسلة من المقالات النقدية التي احتفت به، مع التغريدات والتصريحات التي ألقتها أسماء بارزة في هوليوود، مارتن سكورسيزي وصف الفيلم بأنه «ساحر واستثنائي»، ستيفن سبيلبرغ قال «إنه فيلم مجنون يا إلهي. مليء بالأكشن، ومتماشي مع اللحظة التي نعيشها بشكل لا يُصدق».
هذا الإطراء من قامات سينمائية كبرى رفع سقف التوقعات، وجعل الفيلم موضع جدل ونقاش، خاصة أنه جاء في توقيت يتماهى مع ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة من صراعات اجتماعية وسياسية محتدمة.
إضافة إلى ذلك، فإن وجود نجم الصف الأول ليوناردو ديكابريو في البطولة، وتوقيع المخرج الكبير بول توماس أندرسون المعروف بأعمال Magnolia و There Will Be Blood، كونه أحد أبرز مخرجي «سينما المؤلف» في أمريكا اليوم، ضاعف من جاذبية العمل، إذ اجتمعت عناصر الحرفية الفنية مع ثقل الأسماء لتجعل الفيلم حدثا سينمائيا يفتتح موسم الخريف، والمعروف بكونه موسم الجوائز.
من رواية قديمة إلى حاضر متفجر
سيناريو الفيلم الذي كتبه أندرسون مقتبس من رواية للكاتب توماس بينشون، تدور أحداثها في الستينيات وتحكي عن نشطاء راديكاليين، في ذروة هوجة الهيبيز، يحتجون على سياسات الرئيس نيكسون وقتها. لكن أندرسون، الذي اعتاد أن يضع بصمته الخاصة على كل نص يتعامل معه، اختار أن يعيد صياغة القصة لتدور في سياق معاصر. فجعل أحداث الفيلم تجري في زمننا (الألفية) حيث تستمر الاحتجاجات وأعمال العنف السياسي بين جماعات راديكالية تحمل الحماسة نفسها، لكن في إطار صراعات جديدة بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة. منها قضية الهجرة غير الشرعية، وقوانين الإجهاض، وغيرها.
عنوان الفيلم «One Battle After Another» «معركة تلو الأخرى» ليس مجرد توصيف لتتابع مشاهد الأكشن والمطاردات التي تملأ الفيلم، بل هو مفتاح لرؤية أندرسون الفلسفية عن التاريخ الأمريكي، سواء في الستينيات أو اليوم، أو بعد عشرين عاما، ليس إلا سلسلة من المعارك المتلاحقة. الصراع يتغير في التفاصيل، لكنه ثابت في جوهره. معركة تلو أخرى، وكأن البلاد تعيش في حلقة دائرية من الاحتدام السياسي والاجتماعي. هذه القصة عن أمريكا التي تحارب نفسها بنفسها، منذ تأسيسها وحتى اليوم.
السياسة والإنسان
كما هو معتاد في أفلام أندرسون، لا يغرق الفيلم في الشعارات السياسية المجردة، بل يجعل من الشخصيات والحالة الإنسانية محاور أساسية للحكاية. البطل بوب (ليوناردو ديكابريو) يبدأ ناشطا متحمسا، يؤمن بالعمل المسلح كطريق لتغيير العالم. لكن مع مرور السنوات، ومع تحوله إلى أب لطفلة صغيرة، يتبدل تماما. يصبح رجلا محافظا، يميل إلى الانعزال والانغماس في متع الحياة العادية، ويعتبر أن أفكاره الثورية السابقة لم تكن أكثر من «هراء» حين توضع في مقارنة مع غريزته لحماية أسرته والعيش بسلام.
في انعكاس للفكرة الشهيرة، بأن الإنسان يصبح محافظا مع تقدمه في العمر، وربما هذا الهاجس الذي يؤرق صانع الفيلم نفسه، وهو فنان عُرف بأفكاره التقدمية، لكنه يقترب من الستين الآن!
على الطرف الآخر، يقدم شون بين شخصية «ستيفن لوكجاو»، رجل أمن مكلف بمكافحة الهجرة غير الشرعية، الذي يتورط في علاقة حب مهووس بناشطة راديكالية سوداء تُدعى «بيرفيديا» (تجسدها تيانا تيلور) وهي رفيقة بوب. العلاقة بين العسكري والناشطة تبدو عبثية ومتناقضة إلى حد الكوميديا السوداء: حيث رجل يمثل السلطة القمعية يقع في غرام من تقاتل تلك السلطة. هنا ينجح أندرسون في تحويل الصراع السياسي إلى مادة إنسانية، متناقضة، وساخرة، ينتج عنها سلسلة من الأحداث الدموية.
اللافت أن «لوكجاو» لا يظل ثابتا في تخصص أمني واحد: فهو مرة يدير معتقلا للمهاجرين، ومرة مُحقق فدرالي، ومرة قائد سرية عسكرية تلاحق الإرهابيين بالهليكوبتر. هذا الترقي المتواصل ليس خللاً درامياً بقدر ما وراءه مقصد كاريكاتيري، إذ يعكس تغوّل السلطة في المجتمع الأمريكي، حيث يمكن لنفس الرجل أن يكون تجسيداً لكل وجوه القمع والفساد في آن واحد.
أمريكا بين الكوميديا والمأساة
الفيلم لا يكتفي بالطرح السياسي المباشر، بل يقتحم مجتمع «الرجل الأبيض العنصري» عبر جماعة خيالية من الأثرياء البيض الذين يحلمون بحكم العالم بدعوى التفوق العرقي. هذه الجماعة السرية أقرب إلى ما نسمعه في نظريات المؤامرة عن عصابات تحكم العالم، لكن أندرسون يوظف تلك الفكرة بشكل ساخر، ويصنع من خلالها مشاهد مُضحكة رغم رصانة وجدية مَن يتحدثون خلالها.
التصوير لعب دوراً بطوليا
عدسة مدير التصوير، مايكل بومان، لعبت دورا بطوليا في الفيلم، فأعطته نكهة واقعية قاسية وجذابة في الوقت نفسه. المشاهد الأولى ركزت على لقطات مقربة، قربتنا من وجوه الشخصيات وفضحت تعقيداتهم النفسية، إذ يصعب القول أن هناك شخصية واحدة سوية في هذا الفيلم. ومع تصاعد الأحداث، جاءت مطاردات الأكشن لتكشف براعة بصرية مذهلة، أبرزها مشهد مطاردة في صحراء كاليفورنيا على طريق متعرج فوق التلال. الكاميرا هنا لم تكن ناقلا محايدا، بل شريكا في الحدث، جعلت المشاهد يشعر بالاختناق من شدة التوتر البصري في تلك المطاردة. كما يحسب للفيلم أنه اقتحم أماكن تصوير جديدة على شاشة الأكشن.
هيبة ديكابريو وتألق الآخرين
يأتي ليوناردو ديكابريو ليبرهن مجدداً أنه نجم سينما من زمن العمالقة. فرغم أنه ليس حاضرا في كل المشاهد، إلا أنه يفرض هيبته بفضل أداء ممتع يجمع بين العصبية والعاطفة مع لمسات كوميدية دقيقة. تاركا مساحة لزملائه كي يتألقوا، وهو ما يعكس وعيه بقيمة العمل الجماعي، وبرؤية المخرج الذي يسلم له نفسه. فالفيلم يُنسب لمخرجه بالنهاية.
أما شون بين، فقدّم واحدا من أعقد أدواره في السنوات الأخيرة، إذ جمع بين الصلابة العسكرية والهشاشة الإنسانية في شخصية «لوكجاو». رجل قوي وباطش، لكنه مثير للشفقة في آن واحد. ولعبت سماته الشكلية دورا كبير في مصداقية الدور، من مكياج وتصفيف شعر، ليبدو هذا الرجل تجسيدا كارتونيا لأمريكا البيضاء بعين اليسار. وقد بات من المتوقع ترشح شون بين لعديد من الجوائز على هذا الدور.
في حين خطفت تيانا تيلور الأضواء في الثلث الأول من الفيلم، بدور الناشطة الراديكالية «بيرفيديا» التي أشعلت الأحداث. كذلك أضاف بينيسيو ديل تورو لمسة خاصة بدور مدرب الفنون القتالية الذي يساعد المهاجرين على الهروب من الشرطة، مقدما أداء يجمع بين الكاريزما والدفء الإنساني.
الفيلم وزمنه السياسي
تجاوزت ميزانية الفيلم 150 مليون دولار، ليصبح الأكثر تكلفة في تاريخ مخرجه. كما امتدت أحداثه إلى 162 دقيقة، ما يجعله فيلما أطول من المعتاد. فضّل اندرسون تصويره بتقنية Vistavision الكلاسيكية، ذات الإطار العريض، والصورة شديدة النقاء، بالمقارنة مع الشريط الـ35 ملي التقليدي، وهي التقنية التي طورتها شركة بارامونت في خمسينيات القرن الماضي. ما جعل كادرات الفيلم تنبض بالهوية السينمائية والمتعة البصرية الخالصة. حيث لا يزال بول توماس أندرسون متمسكا بقناعاته التي تميل إلى المدرسة القديمة حين يتعلق الأمر بالصورة.
لكن الأهم هو تزامن عرض الفيلم مع الأحداث السياسية في أمريكا. فقد عُرض بعد أسبوع واحد فقط من حادثة اغتيال سياسي بارز، ما جعل مشاهده أكثر واقعية. هذا التزامن جعل الجمهور يرى في الفيلم مرآة للواقع. ولا غرابة أن إحدى الشخصيات تقول في مشهد داخل الفيلم: «لقد مرّت 16 عاماً.. ولم يتغير شيئا»، في جملة تلخص رؤية أندرسون: التاريخ يعيد نفسه، الصراعات تتجدد، لكن الجوهر واحد.
خلاصة
في النهاية، One Battle After Another ليس مجرد فيلم سياسي أو دراما عائلية أو عمل أكشن كوميدي ممتع، بل هو مزيج من كل ذلك. إنه عن علاقة أب بابنته، وعن الصراع السياسي الأزلي بين اليمين واليسار، وأكثر من كل ذلك، هو عن مفهوم الزمن الذي لا يتغير في جوهره مهما تغيرت التفاصيل.
إنه فيلم معاصر ومتماشٍ مع اللحظة الراهنة بكل معنى الكلمة، لكنه أيضا فيلم سيبقى صالحا للمشاهدة بعد سنوات، لأنه يلمس جوهر التاريخ: «معركة تلو الأخرى».