اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٤ حزيران ٢٠٢٥
رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
يبرز ملفّ الشباب الأردنيّ اليوم بوصفه عقدة التقاطعات الكبرى بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، ومِقياساً لمدى قدرة الدولة على تجديد بُنيتها الاجتماعيّة في ظلّ تحوّلاتٍ ديموغرافيّةٍ حاسمة. فتركيبةٌ سكانيّةٌ تصطفّ فيها الأغلبيّة المطلقة دون سنّ الثلاثين، تُنذِر إمّا بعصرٍ ذهبيّ إذا جرى استثمارها، أو بتفاقم أزمات بنيويّة إذا تُرِكَت على هامش التخطيط.
أوّل ما يلفت النظر في مشهد الشباب الأردني هو التناقض الصارخ بين ارتفاع نسب التعليم الجامعي وبين تفاقم البطالة. فبينما تتفاخر الجامعات بتخريج عشرات الآلاف سنويّاً، يتشكّل طابورٌ طويل من العاطلين، ربعهم من حملة الشهادات العليا. هذه المفارقة تعكس عطباً مزدوجاً: سوق عملٍ محدود القدرة الاستيعابيّة، ونظاماً تعليميّاً ما يزال يُنتِج تخصّصاتٍ لا تتّسق مع أولويّات الاقتصاد الوطني. فالاقتصاد الأردني، الذي ينمو بمتوسّط 2.5–3 % سنويّاً، يُشَبَّه بشاحنةٍ صغيرة تحاول حمل أثقال شاحنةٍ ثقيلة؛ أي أنّ طاقته الاستيعابيّة أقلّ بكثير من مخرجات الجامعات، ناهيك عن فجوة المهارات بين ما تدرس في القاعات وما يَطلبه أرباب العمل.
في المقابل، يحقّ للأردن أن يفتخر ببنيته التحتيّة الرقميّة وبتفوّقه الإقليمي في اختراق الإنترنت. غير أنّ الاقتصاد الرقمي تحوّل حتى الآن إلى «منصّة فضفضة» أكثر منه «منصّة إنتاج». ملايين الحسابات على وسائل التواصل تفتح أبواباً واسعة للتعبير والنقاش، لكنّها لم تُترجَم بعد إلى فرص رياديّة كافية تستوعب حماس الأجيال الرقميّة. إذ ما يزال الاستثمار في الشركات الناشئة محدوداً، ويواجه روّاد الأعمال معيقاتٍ تمويليّةً وتشريعيّةً، فيما تُهاجر الأفكار المبتكرة إلى أسواقٍ أكثر رحابة في الخليج أو أوروبا.
تُظهر استطلاعاتُ رأيٍ متواترة تراجعاً مضطرداً في ثقة الشباب بالمؤسّسات الرسميّة، وهو تراجعٌ تؤجّجه عدد من العوامل رئيسة منها: الشعور بالعجز الاقتصادي، والانطباع بأنّ مسارات المشاركة السياسيّة مغلقة أو مقيَّدة،. وينبغي هنا التفريق بين «اللايقين المشروع» الذي يصاحب التحوّل الديمقراطي، وبين «اليأس» الذي ينتج عن وعودٍ لا تجد طريقها إلى الواقع. فمنذ انطلاق «رؤية التحديث الاقتصادي» تَعِد الحكومة بمليون فرصة عمل، لكن ما يصل الشباب من هذه الوعود هو مجرّد رقمٍ يَستعصي على التحقّق، خاصةً إذا ظلّ النمو دون 5 % سنويّاً وهو المعدّل اللازم لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
ثلاثة سيناريوهات حتى 2030
1.سيناريو القفزة التنمويّة
يعتمد على تفعيل الرؤية الاقتصادية وتبنّي خطة تحفيزٍ صناعيٍّ رقميٍّ أخضر، مع إصلاحات ضريبيّة تُخفّف العبء عن المشروعات الناشئة. هذا المسار قد يخفض البطالة الشبابيّة تدريجيّاً ليصل إلى أقلّ من 30 % في 2030، بشرط رفع النمو إلى 5–6 % وزيادة المشاركة النسائيّة في سوق العمل.
2.سيناريو الركود الاحتجاجي
إذا تعثّرت الخطط وبقي النمو حول 3 %، ستتراكم الطاقات المُهمَلة، ويتضخّم الاحتجاج، في هذا السيناريو، يتحوّل الفضاء الرقمي من منصّة نقاشٍ إلى غرفةِ صدى يغذّي الغضب وينفُل الاحتجاج إلى الشارع، مّا قد يرفع كلفة الاستقرار ويُقلّص الاستثمارات.
3.سيناريو التوازن المرن
يُبنى على شراكاتٍ محليّة تمكّن البلديات من لعب دور «مُسرِّعات نموّ» عبر الحاضنات الرياديّة والمشروعات الزراعيّة الذكيّة. ويتطلّب هذا النهج إعادة توزيعٍ عادلة للإيرادات الضريبيّة بحيث تحتفظ المحافظات بجزءٍ أكبر من حصيلة الضرائب لتحفيز الاستثمار المحلي.
لا بدّ من التفكير خارج الصندوق التقليدي لعلاقة التعليم بسوق العمل. فالعالم يتّجه إلى اقتصاد المهارات micro-credentials، حيث يُعطى الوزن الأكبر للمهارة القابلة للقياس لا لمسمّى الدرجة العلمية. ويستطيع الأردن الاستفادة من هذا التحوّل عبر برامج تدريبٍ مكثّفة قصيرة الأجل تُشرف عليها شركاتٌ خاصّة بالشراكة مع الجامعات، وتُموَّل جزئيّاً من صندوق تنموية أو عبر حوافزٍ ضريبية. بذلك ينتقل الخريج من انتظار «وظيفة حكومية» إلى صناعة «فرصة خاصّة» تُنشئها مهارته المعتمدة دولياً.
أرقام البطالة بين الشابّات صادمة، وتتطلّب مقاربةً خاصّة تتجاوز التنميط الثقافي إلى تمكينٍ اقتصاديٍّ فعليّ. توفير حضانات مدعومة، وبيئات عملٍ مرنة، وتشريعاتٍ تحظر التمييز في الأجور، جميعها إجراءات لا تزيد العبء المالي كثيراً بقدر ما تخفّف العبء الاجتماعي المتمثّل في نصف قوة العمل المُعطّلة.
يقدّم الشباب الأردني اليوم اختباراً حيّاً لصلابة العقد الاجتماعي: هل تستطيع الدولة تحمّل كلفة العدالة، أم ستدفع ثمن القلق المزمن؟ العدالة هنا ليست شعاراً، بل معادلة تنميةٍ مستدامة، إذ لا يمكن لاقتصادٍ صغيرٍ محاطٍ بأزماتٍ إقليميّة أن يحتمل انفجاراً داخليّاً. لذلك، يُفترض بالقرار الرسمي أن ينقل الرؤية من لغة الشرائح التقديميّة إلى لغة الأرقام المنجزة، وأن يستند في تقييمه إلى مؤشّراتٍ قابلة للتحقّق: نموّ حقيقي في فرص العمل، ارتفاع ملموس في مشاركة المرأة، تحسن في ترتيب الأردن على مؤشر تنافسيّة الاقتصاد.
حان الوقت للانتقال من شعار «تمكين الشباب» إلى فعل «تمكين الوطن بالشباب». حين تُفتح لهم الأبواب سيحوّلون الضجيج إلى تنمية، والاحتجاج إلى ابتكار، والسخط إلى طاقة تغيير بنّاءة. المستقبل ليس حدثاً مؤجَّلاً بل نتيجة قراراتٍ تُتخذ اليوم؛ وكلّما أسرعنا في تفويض الجيل الجديد، تقدّم الأردن خطوةً إضافية في سباق التنافسية الإقليمية، مؤكداً أن صوته ليس ضجيجاً بل صدى عدالةٍ تتحقق.
فالشباب، وهم الشريحة الأكثر تأهّلاً لإدارة المستقبل، لم يعودوا يقنعون بالإصغاء؛ إنّهم يطلبون دوراً في كتابة السيناريو القادم.