اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢ أب ٢٠٢٥
كيف سيتحرر الوعي العربي من قيود الترويض
د. هاني العدوان
لا أحد ينكر أن الأمة العربية الآن تعيش أخطر مرحلة انهزامية في تاريخ وجودها، هزيمة في ساحات الوعي، معركة ترويض محكمة، احتلال بلا دبابات، واستعمار بلا جيوش تقوده منظومة إعلامية مدجنة، وثقافة مشوهة، وسياسات تتقن صناعة الأزمات، حتى غدا المواطن العربي مستهلكا للهزيمة بوعي وبدون وعي، يقبلها كأمر واقع أحيانا، ويدافع عنها كضرورة أحيانا أخرى
لم يرد العدو أن يواجه الأمة في الميدان، بل أراد أن يسحبها إلى ميدان آخر، ميدان الوهم واللاجدوى، لقد تم تحويل العربي من فاعل إلى متفرج، ومن صاحب قضية إلى متلق، أصبح دوره أن يشاهد الهزيمة تعرض أمامه كفلم أو مسلسل يتابعه بصمت وينفعل حين يؤمر بذلك، لم تكن المشكلة في أن العدو احتل الأرض، بل في أنه احتل العقول أولا
وكانت الطعنة الأولى في صدر الأمة من الإعلام، حين تحول من صوت يعكس نبض الشعوب إلى ورشة لصناعة رموز التفاهة، اغتيلت القدوة، وصعد إلى المشهد من لا علاقة له بالوعي ولا بالقضايا المركزية، تحول المذيع إلى مهرج في سيرك الفضائيات، يصفق للغث، ويهاجم أي صوت يحاول أن يذكر الأمة بنفسها
ثم جاءت المرحلة الأخطر، إغراق الشعوب في مستنقع الأزمات المعيشية المقصودة، لا الغلاء ولا انهيار الخدمات أزمات عابرة تمر بل سكاكين خفية تقطع حبال الصبر والكرامة يوما بعد يوم، حتى أصبح المواطن يقاتل لأجل رغيف الخبز بدلا من أن يقاتل لأجل تحرير الأرض، حين يرهق الإنسان في معركة البقاء اليومية، يصبح أعجز من أن يفكر في معركة التحرير
وفي ذروة هذا الإنهاك الجماعي، بدأ العدو يحكم قبضته على أخطر جبهة، جبهة الوعي، لقد ضخ خطابا مسموما يجمل الهزيمة ويشرعن الاستسلام، الاحتلال قدر يجب التكيف معه، والمقاومة مغامرة عبثية، والنصر حلم جميل لكنه خارج حسابات الواقعية السياسية
هكذا تحول العربي من مشروع مقاوم إلى مشروع متفرج، يتابع أخبار المجازر كما يتابع نتائج مباريات كرة القدم ونهايات المسلسلات
لكن الشعوب التي تخدر قد تنام طويلا، لكنها لا تموت، ففي كل زاوية جائع يعلم أن جوعه ليس قدرا بل جريمة، وفي كل مدرسة طفل يرسم خارطة بلاده كاملة رغم أنف الحدود المصطنعة، وفي كل ركن مظلم مثقف يكتب لأنه يدرك أن الكلمة الصادقة أفتك من ألف قذيفة دعائية، وما دام في الأمة من يعرف من سرق خبزه ومن شوه تاريخه، فإن معركة الترويض ستبقى ناقصة، والصفعة التي ستوقظ هذا الجيل قادمة لا محالة