العفو العام وتكريس سيادة القانون

نظراً لكونه واحداً من أعقد الموضوعات القانونية، فلطالما ناقش الباحثون القانونيون والمتخصصون مفاهيم العفو العام، وأهميتها، وانعكاساتها على المجتمع؛ وقد خلصوا في النهاية إلى تعريف محدد للعفو العام يتمثل بأنه «محو الجريمة والعقوبة؛ أي جريمة وعقوبتها، وبالتالي فإنه يجب أن يطال كل الجرائم بلا استثناء»، بحسب هذا التعريف الفقهي الذي نادى به بعض فقهاء القانون. لكن ذلك أثار حفيظة آراء البعض الآخر ممن يرون في ذلك «منعاً من معاقبة المجرمين على أفعالهم التي ارتكبوها واعتدوا بها على الهيئة الاجتماعية (المجتمع)».

كما اعتبر جانب منهم أن «العفو العام» إن تضمن بعض الاستثناءات؛ فإنه ينقلب من عفو عام إلى عفو خاص، الذي يعني «محو عقوبة جرم معين؛ أي أنه يقتصر على جرائم معينة، أو أنـه يقتصر على تخفيض عقوبة لجرائم معينة، وبالنتيجة فإنه لا يجوز لقانون العفو العام أن يستثني جرائم من نطاقه أو أن يقتصر على تخفيض عقوبة لجريمة معينة أو أن يعلق شمول بعض الجرائم على شروط معينة»، وهو تعريف أورده سابقاً الدكتور أحمد العثمان.

وعلى أي حال، فإن العفو العام في ظل التعريفين السابقين لا يراعي– بحسب ما أرى– الظروف والتوازن في الحماية المجتمعية، وعليه فإن العفو الخاص هو عفو خاص بإصداره؛ بمعنى أنه استثناء لبعض الجرائم ابتداء من العقوبة، وليس استثناء على العفو العام الذي يأتي لغايات إشاعة أجواء من التسامح في المجتمع، وتخفيف حدة التوتر والتشنج المجتمعي، وإعطاء الجناة فرصة لهم من أجل العودة إلى جادة الصواب، وهو «جوهر تكريس سيادة القانون، وحماية المجتمع».

والعفو العام بهذا المفهوم، إنما يعمل على تخفيف العبء أيضاً عن السجون التي تعاني اكتظاظاً هائلاً، كما يسهم في التوجه نحو العقوبات البديلة، ومفاهيم العدالة التصالحية (المأخوذ بها في العديد من دول العالم المتقدم التي تعاني من انخفاض معدلات الجريمة وعلى رأسها كندا)، كما يسهم في مراجعة الجناة لأنفسهم، وعودتهم إلى حياة سوية بعيدة عن البغضاء والإجرام، لكن ذلك يجب أن لا يشمل من ارتكبوا أفعالاً إجرامية خطيرة مست سابقاً ببنيان المجتمع، كجرائم القتل والمساس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي كالإرهاب والتجسس، لا بل درجت آخر 3 قوانين للعفو العام على استثناء جرائم هتك العرض، والاغتصاب، والخطف الجنائي لأثرها البالغ على المجتمع.

صحيح أن الدستور لم يعرّف العفو العام والعفو الخاص وإنما تولى تعريف كل منهما قانون العقوبات، وأن اللبس يثور في التمييز بينهما من حيث صياغة كل منهما، إلا أن الحديث عن أن «المشرع عندما ضمن قانون العفو العام استثناء لبعض الجرائم، فيحوّله بذلك من عفو عام إلى عفو خاص، وبذلك يخرج من دائرة اختصاص مجلس الأمة مع ما يترتب على ذلك من إشكاليات دستورية»، هو كلام خارج عن سياقه وغير منطقي؛ فلكل قاعدة عامة استثناء، كما أن القانون يأتي دوماً لحفظ التوازن في المجتمع، وحماية مصالح الأفراد جميعاً وعليه فإن صدور قانون العفو العام وورود الاستثناءات عليه لا يمكن أن يجعل من العفو العام عفواً خاصاً، بل هو عفو عام ترد عليه مجموعة من الاستثناءات حماية للمجتمع.

وأخيراً من ناحية الاختصاص؛ فإن «الجهة المختصة بإصدار العفو العام هو مجلس الأمّة والملك، لأن العفو العام يجب أن يصدر بموجب قانون وذلك بصريح نص المادة (38) من الدستور»، أما العفو الخاص فهو من صلاحيات الملك بموجب ذات المادة من الدستور، وورود استثناءات على العفو العام لا يجعله فقط من صلاحية الملك، فلو أراد الملك وهو رأس السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لأصدر ابتداءً عفواً خاصاً عن بعض الجرائم، مما يبقي معه العفو العام عاماً، والعفو الخاص خاصاً.