اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. الغويين يكتب عن وصفي التل: الاستثناء الوطني (2 - 2)
كتب د. فيصل الغويين -
كان وصفي التل من المؤمنين أن الإصلاح الحقيقي لا بد وأن يبدأ من الأعلى، وأن الحكومة هي أداة الإصلاح الرئيسة، لذلك عمل على تطهير الجهاز الإداري من العناصر الضعيفة والفاسدة، ووضع الكفاءات في موضعها الصحيح، وهو مبدأ التزم به في كل الحكومات التي شكلها. ولكي تتخلص أجهزة الدولة من الرشوة تم زيادة رواتب موظفي الدولة بما في ذلك القوات المسلحة والأمن العام، كما زيدت ساعات العمل من 36 ساعة أسبوعيا إلى 42 ساعة، على أن تكون ساعات العمل المسائية لإنجاز المعاملات، وليس لمراجعة المواطنين.
الفساد
كان الفرق بينه وبين من سبقه ولحقه من رؤساء الحكومات أنهم تحدثوا عن الفساد، أما وصفي فتحدث عن الفاسدين وسماهم، واتخذ بشأنهم ما يلزم. وظل يلاحق الفساد سواء أكان رئيسا للحكومة أم جزءا من السلطة التشريعية، فيعد سنوات من ثورته لاجتثاث الفاسدين، وإعادة هيكلة الدولة، شعر أن مشروعه لم يحظ بالمتابعة اللازمة. ومن موقعه في مجلس الأعيان ألقى كلمة مطولة في آذار من عام 1969، أثناء مناقشة الموازنة العامة للدولة، والتي قدمتها حكومة بهجت التلهوني، عرض فيها الجوانب السياسية والخدمية التي يستشعر الناس فيها الفساد، ومما قاله : .. من هنا جاءت قصص رخص سيارات الديزل، ورخص الترّكًات، ورخص قطع الغيار، وإعطاء التعهدات، وتعيين المحاسيب والأنصار بغض النظر عن أهليتهم أو كفاءتهم. ومع هذه القافية جاءت قصص الأرز والسكر والجوازات، وتعهدات الإسفلت، وأموال القسم التجاري وكومسيونات المشتريات...
ومن أوجه هذا الهدم وهذا النكران للجميل التشكيك بقيم هذا البلد وبمستقبله والاستهانة بقوانينه وأنظمته، وعد ماله وموارده وتقاليده وأصوله ومصادر رزقه مالا مباحا، كأنما تخص إنسانا ميتا لا عزوة له .. آثار هذه المعرفة أنتجت لا أبالية عامة، وميوعة في أجهزة الدولة، وتصاعدت نتيجة ذلك عوامل الفساد والانحلال في كل مجال، هذا التصاعد حتى في أيام السلام والدعة يكفي لتقويض مجهود أي دولة، فما بالنا ونحن في معركة يفترض أن تتحول الحكومة عندنا إلى مستوى الصحابة بسبب قداسة المصير ...
على الحكومة ألا تفسر الانضباط الذي يتحلى به هذا البلد على أنه خوف أو جهل أو عدم معرفة. النقمة وصلت إلى كل مواطن، سواء أكان فلاحا وراء محراثه أم جنديا في خندقه'.. كان هذا البد مضرب المثل في حسن استخدامه لموارده، وفي نظافة أجهزته وحزم إدارته. الرشوة والميوعة وشلة الحكومة جعلت منا موضع غمز ولمز لا يرضاها مخلص لهذا البلد الذي لا يستحقه سوى الأجلاء الأعزاء. لقد أوصلت هذه الحكومة الأمور في هذا البلد من الفوضى والهوان والفساد، مما لا يصح السكوت عليه .. فالذين يعتقدون أن هذا البلد قد انتهى واهمون، والذين يعتقدون أن هذا البلد بلا عزوة واهمون، والذين يتصرفون بما يخص هذا البلد كأنه (جورعة) مال داشر واهمون كذلك .. فلا مكان للفساد ولا مكان للرشوة، ولا مكان لتلون الوجوه، الميدان للصابرين الصادقين ذوي الرأي الجريء الصريح'.
المواجهة مع إسرائيل
بنى وصفي التل مشروعه في التحرير والوحدة على عقيدة أمنية محورها أن العدو المركزي هو إسرائيل، ورأى أن المواجهة مع إسرائيل حتمية، وكان الفرق بينه وبين الذين آمنوا بتحرير فلسطين، يكمن في أنه امتلك برنامجا واضحا، حرص على تنفيذه بثنائية عسكرية سياسية متسقة.
وصل إلى خلاصات هامة حول أسباب هزائم العرب العسكرية، وكانت النقطة المركزية عنده غياب ركيزتي العقل والخلق، داعيا إلى البعد عن الانتهازية، والتحلي بالشجاعة عند إجراء أية مراجعات. وظل على قناعة بأن الدخول في مفاوضات مع إسرائيل انقاذ لها وتفريط بفلسطين.
عارض وصفي التل دخول الأردن حرب عام 1967، لقناعته أن العرب غير جاهزين للمعركة، وأن الخسارة مؤكدة، وبعد هزيمة حزيران وقف وصفي مع ضرورة وأولوية المقاومة، وكان الأردن في رؤيته الاستراتيجية يمتلك سلسلة جبلية تشرف على فلسطين والأغوار ووادي عربة، وهو ما يعطي الجيش الأردني والمقاومة الشعبية قدرة على تلافي فوارق التسليح مع جيش العدو. وبالمقابل رأى أن أي حل في إطار تسوية مع إسرائيل، سيؤدي إلى التنازل عن حق العودة، وتحويل الأردن إلى حديقة خلفية للاحتلال الإسرائيلي.
على الرغم من الدور الأساسي الذي قام به الجيش الأردني في معركة الكرامة، إلا أن الإعلام المحلي لم يستطع ترجمة هذا الدور. في حين شنت منظمة فتح حملة سياسية إعلامية لتصوير نصر الكرامة مكسبا خاصا لها، متجاهلة دور الجيش، وبذلك استطاعت فتح أن تحصد إعلاميا نتائج معركة بطولية خاضها جنود أردنيون مع مقاتلين فلسطينيين، وتمكنت من تأكيد حضورها السياسي الداخلي المدعوم عربيا، ما مكنها من استقطاب وتمويل ميليشيات كبيرة في عمان والمدن الرئيسية، نجحت في استمالة شخصيات سياسية وإعلامية، تمكنت من خلالها من السيطرة على الميليشيات الأخرى، وتعطيل قوى الدولة. واشتد النزاع على السلطة التي غدت برأسين.
لم تكن حركة المقاومة موحدة، وإنما كانت مجموعات مختلفة ومنقسمة، ومثلت توجهات أيديولوجية مختلفة، وحظي كل فصيل بدعم دولة عربية. عايش وصفي التل تحالفات علنية وسرية داخل الأردن لصالح حركات المقاومة، ولاحظ الآلة الإعلامية التي ساندت فتح في المنطقة، فلم يتردد في أن يرفع صوته للمطالبة بالوضوح والالتزام بالأخلاق في العمل السياسي.
بعد أن تمكنت حركة فتح من السيطرة على منظمة التحرير، بدأ عرفات يرى أن مشروعه يناقض مشروع وصفي، ولا مجال للتسوية بينهما. وفي المقابل تبلورت قناعات لدى وصفي أن الرجل لا يرغب في المصالحة، لأن هدفه النهائي كان إقامة دولة فلسطينية على حساب وجود الأردن.
في ظل هذا الوضع الذي تقاطعت فيه مصالح قوى عربية تعمل ضد الاردن مع مراكز قوى داخل الدولة، تعززت لدى وصفي الهواجس بوجود منظومة إقليمية دولية تحاول تحقيق نظرية أن يتولى الفلسطينيون والمنظمات الفدائية قيادة العمل السياسي والتفاوض بديلا من خوض حرب التحرير. ورغم المحاولات التي بذلها وصفي وآخرون للوصول إلى معادلة مقبولة بين الدولة والمنظمات، إلا أن إصرار هذه المنظمات على فكرة إسقاط الدولة أدى إلى المواجهة الحتمية.
قبيل تشكيل حكومته الأخيرة قدم وصفي التل تقييما عميقا للأحداث حين قال :' إن أخطاء وقعت في المعسكرين: الدولة والمقاومة، وأن عناصر اندست بدوافع مختلفة داخل المعسكرين من أجل التصعيد والوصول إلى ما وصلت إليه الحالة غير المقبولة، والتي كان الصدام عندها محتوما. ثم أنه من طبيعة الأمور أن تكون هناك قوى غير أردنية وغير فلسطينية لا تريد الخير لهما، وهذا الأمر من المفترض أن يحسب حسابه، لا أن يقع أي طرف في أحضانه. إن مسؤولية الحفاظ على الأمن وكيان البلد هي مسؤولية رسمية تأتي قبل أية أوهام قد تزعم أن إضعاف الأمن أو الكيان أو أي منهما هو الطريق إلى تحرير فلسطين'.
بعد أيام من تشكيله حكومته الأخيرة قال في مؤتمر صحفي :' الأردن للفلسطيني مثلما هو للأردني، وفلسطين للأردني مثلما هي للفلسطيني سواء بسواء'. أما الممارسات السياسية والأمنية التي طبقت خلال أحداث أيلول 1970، فكانت استثناء فرضته ضرورة بسط سيادة القانون.
وبعد أن انتهت الأحداث كرر القول ' إن الذين خاصمناهم وقاتلناهم نستطيع أن نسميهم بأي اسم إلا أنهم فدائيون. وهذا لا يعني أن كل من كان في الأردن لم يكن فدائيا، فأنا لا أشك أنه كان بينهم أعداد كبيرة من الفدائيين الحقيقيين الذين كانوا يريدون التحرير. إلا أن اللون الغالب كان مجموعة من الأفراد المسلحين ذوي الميول السياسية المختلفة، والأهداف المتناقضة، وكانوا يسعون إلى كل شيء إلا مواجهة العدو ... كانوا مجموعات غير منضبطة، لا تملك التدريب، وبعضها لا يملك الخلق ولا المسلكية التي يجب أن يتصف بها الفدائيون'.
مر العمل الفدائي في رأي وصفي التل بمرحلتين:
الأولى: مرحلة ما بعد عام حرب 1967، وفيها أعلن العمل الفدائي أنه لن يلقي السلاح – على الأقل كشعار- فأصبح محط الأفئدة، وكان هذا الشعار يعني عمليا جر الأمة العربية إلى صدام مع العدو، لا بد أن يبلور إرادة الأمة، ويدفع بإمكانيتها المادية والبشرية إلى معركة المواجهة ومنها إلى معركة التحرير.
الثانية: وهي المرحلة التي اكتشف فيها العمل الفدائي، قبل أن يكتشف الرأي العام العربي، بأنه لم يعد يملك القدرة على مواصلة رسالة التحرير لأسباب تتعلق بتركيبته وتركيب قياداته وضيق الأفق والعجز عن فهم طبيعة المرحلة الثورية التي أعقبت معركة الكرامة. عندها لجأت قيادات العمل الفدائي إلى البلاغات غير الصحيحة.
ولكي يحافظ هذا العمل على صورته التي حولتها الدعاية العربية إلى صنم يعبده الناس، لجأ إلى اختراع عدو وهمي يحول بينه وبين مواصلة مقاومته، فوقع اختياره على النظام الأردني.' 'فكل ثورة لا تستطيع حماية نفسها بعملها لا تستطيع أن تحمي نفسها بالافتراء على غيرها'. ولو بقيت أعمال الفدائيين داخل إطار الصورة المشرقة في المرحلة الأولى، لبقي كل فرد في الأردن، سواء بين صفوف الناس أم بين صفوف الجيش حاميا للفداء والفدائيين'.
تناول وصفي التل مظاهر الانحراف في العمل الفدائي بالقول :' في هذه الأثناء دخلت عناصر كثيرة العمل الفدائي، كل حزب سياسي فاشل بدأ يتستر بالفداء ويستخدمه لأهدافه الحزبية الخاصة. وقد بلغ عدد المنظمات الفدائية أكثر من عشرين منظمة تمثل أحزابا سياسية أو تابعة لحكومات وأنظمة حكم واتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار'، وهي المرحلة التي أطلق عليها 'مرحلة الفوضى'.
وفي آخر حديث له قال وصفي التل :' خطتنا قائمة على معادلة بسيطة، وهي أن الحديث عن الحل السياسي أو الحل العسكري وحدهما هو حديث خاطئ، وأن الحل لا يمكن أن يجئ إلا بالاعتماد على القوة، وأن نقطة الضعف في الموقف العربي الاعتماد على الحل السياسي دون الاعتماد على القوة العسكرية، والتي يعتبر العمل الفدائي شكلا من أشكالها'.
خلال حكومته الأخيرة ركز وصفي التل على مشروع إعادة بناء الدولة التي عانت من الانهاك والانقسام السياسي والضعف الاقتصادي، من خلال إنهاء الفوضى وضبط الأمن في المدن والقرى، وإعادة بناء الجبهة الاجتماعية والسياسية الداخلية، وتنظيم طاقات الجيش، مع الإستناد إلى مقاومة شعبية تكون نواتها من المتقاعدين العسكريين، تمهيدا للتفاهم مع قيادات المنظمات الفلسطينية على صيغة للعمل الفدائي في إطار استراتيجية دفاع وطنية، وصولا إلى البدء في عملية مزدوجة من التنمية الشعبية والمواجهة مع العدوان ضمن خطة عمل عربية متكاملة.
الرحلة الأخيرة
وبالرغم من إبلاغ السفير الأردني في القاهرة أن الحكومة المصرية تعتبره شخصا غير مرغوب فيه، وبالرغم من نصائح الكثيرين، وإبداء الملك حسين تخوفه من احتمالات حدوث شيء، إلا أن وصفي لم يتوقع أي خطر لاعتقاده أن مصر دولة ذات تقاليد عريقة وتهتم بالمحافظة على الأمن. وكان أحد أسباب إصراره على حضور اجتماعات وزراء الدفاع العرب، اعتقاده أن تلك الجلسة ستكون حاسمة، وأن لديه برنامج عمل يأمل أن يتبناه العرب لأنه يقوم على العقل، ولأن لدى العرب إمكانات كبيرة يجب التنسيق بينها بإخلاص، كما كان يرغب في الحوار مع الدول العربية من أجل الوصول إلى تفاهم مع الأردن، ولم يكن يرى أنه عمل ضد الفدائيين ما يخشى من عواقبه، وأن التهديد قد يصل إلى التنفيذ.
وفي اليوم الثاني للمؤتمر طرح سعد الدين الشاذلي التقرير العسكري المصري، فنال إعجاب وصفي، مقترحا أن تضاف الجبهة الرابعة إلى الجبهات التي تحدث عنها التقرير (الأردنية والسورية والمصرية)، وهي جبهة المقاومة الفلسطينية، والتي تستطيع أن تلعب دورا أساسيا إذا ما اتحدت في دول عربية ذات جبهة عريضة وقوية.
استشهد وصفي التل الذي حمل في عقله وقلبه مشروع تحرير فلسطين انطلاقا من تقوية الأردن، وظلت السلطة في نظره مجرد وسيلة لتنفيذ رؤيته وتطبيق مشروعه.
نعاه الملك حسين قائلا:' عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وأمته، وكافح بشرف ورجولة من أجلهما، وقضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما برجولة وشرف'.
قاتل في سبيل ما آمن به باستمرار،' العروبة'، والملكية، والتحديث، والبناء والتطوير التدريجي. لم يكن متحمسا لأسلوب الديمقراطية البرلمانية، إلا أنه لم يكن معاديا له، ولعل مجمل تنشئته، وتراكم الثقافات التي احتك بها، والتجارب السياسية والعسكرية النية كانت من أسباب هذا التوجه.
احتل وصفي التل موقعا استثنائيا في تاريخ رؤساء الحكومات الاردنية، فهو على حد تعبير القيادي الفلسطيني نبيل عمرو:' أكبر كثيرا من رئيس وزراء وأقل قليلا من ملك'. وعن المكانة التي نالها الشهيد في وطنه قال عدنان أبو عودة :' أقول كما قال تشرشل مرة إن الشعوب تنتج شخصية مرموقة كل مئة عام، وأعتقد أن وصفي هو حصة الأردن في القرن العشرين'.
بالرغم من وجود شخصيات تركت أثرا وتأثيرا في تاريخ الأردن أمثال سليمان النابلسي وهزاع المجالي وعبد الحميد شرف، إلا أن وصفي كان وما زال الأقرب إلى الأردن والأردنيين، وحيا في وجدانهم رغم مرور خمسة عقود ونيف على رحيله.
كان مزيجا من المشاعر الوطنية والقومية الصادقة من جهة، والولاء الكامل للنظام الملكي في الأردن من جهة ثانية.
