اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٣١ أيار ٢٠٢٥
صديقة من ألمانيا وصلت إلى الجزائر، قصد المشاركة في مؤتمر علمي، في جامعة تبعد عن عاصمة البلاد مسير خمس ساعات بالسيارة. قضت صباحها الأولى في محاضرات، ولقاءات مع طلبة وأساتذة، وفي نهاية الظهيرة خرجت في تجوال في المدينة، ومن أجل تناول كوب قهوة. جلست في مقهى، وطلبت من النادل مرادها. ولم تسلم من نظرات النادل، الذي كرر الوقوف على رأسها، وسؤالها إن تحتاج إلى خدمة أخرى. وفي كل مرة تجيب بالنفي، بعربية فصيحة، بحكم أنها تجهل العامية. فهي أستاذة لغة عربية، وواحدة من ألمع الأساتذة في بلدها، كما إنها مترجمة كذلك. لكنها كانت كلما تكلمت بعربية فصيحة زادت من فضول النادل، الذي باغتها بسؤاله، عندما همت بدفع الحساب: «لماذا لا تتكلمين الفرنسية؟». استغربت سؤاله وردت عليه: «لأنني ألمانية. لا أعرف الفرنسية، بل تعلمت العربية». هذه اللغة التي تعلمتها في سنين إقامتها في مصر. لم يرض بجوابها، بل كرر سؤاله: «لكن لماذا لا تعرفين الفرنسية؟». لأنها شقراء ولها عينان زرقاوان، فلا بد أن تتكلم الفرنسية، هكذا فكر وهكذا فهمت منه.. وهذا ما يسود كذلك في المخيلة الجزائرية. فكل شقراء لها عينان زرقاوان لا بد أن تتكلم لغة موليير.
الغريب أن هذا النادل لم يشعر بفضول أنها تتقن العربية الفصحى، وأنها تتكلمها بطلاقة، رغم أنها ليست عربية، بل زاد فضوله لأنها لا تتكلم الفرنسية فحسب. وقد بذلتْ جهدا في إقناعه أنها تحب العربية، ولا تتكلم سواها وكذا لغتها الأم في ألمانيا.
هذه الواقعة تبوح بسوء فهم نحيا فيه في الجزائر، حيث ساد في الأذهان أن كل أوروبي لا بد أن يكون فرنسياً، وكل أوروبي لا بد أن يتكلم الفرنسية. وعندما يحل في بلدنا أجنبي يتكلم العربية، بطلاقة، فهذا الأمر لا يثير فضول أحد، ولا يفكرون في الجهد الذي بذله في تعلم اللغة، بل ينفجر فضولهم في السؤال عن أسباب جهله بالفرنسية. في نظرهم الفرنسية هي اللغة الأولى، أو هكذا يخمنون. وذلك النادل لم ينصرف بعد سؤاله، بل أصر على محادثة مفاداها تحميل الصديقة الألمانية وزرا أنها لا تتكلم الفرنسية. شعرت كأنها ارتكبت فعلاً غير مشروع، لأنها زارت الجزائر من غير أن تتعلم الفرنسية.
وعندما حكت لي قصتها، تذكرت واقعة أخرى، حصلت مع صديقة إيطالية، هذه الأخيرة وبعدما وصلت إلى المطار بصدد المغادرة، صادفت شابا، لم يسألها عن وجهتها، من أين تأتي وأين تذهب، بل خاطبها بلكنة بين الاستعطاف والمغازلة غير المحببة: «خذيني معك إلى فرنسا». فمن ملامحها الأوروبية قدّر أنها فرنسية، وهذه هي الفكرة الشائعة في الجزائر، فالعالم في نظر البعض يبدأ من باريس وينتهي في باريس. كما لو أن اللغة الأجنبية المسموح بها في البلاد هي الفرنسية، ولا تنازعها لغة أجنبية أخرى. والغريب أن هذا الأمر لم يعد حكرا على عامة الناس، بل إن هناك موظفين في الدولة ينساقون إلى هذه المفارقة، وذلك ما تكشف عنه قصة وقعت مع صديق إيطالي آخر، فبعدما وصل إلى مطار هواري بومدين، يحمل معه تأشيرة ودعوة في برنامج تدريب موجه للطلبة، اضطر إلى إجراءات روتينية، تتعلق بأسئلة عن محل إقامته، وكذلك المدة التي سوف يقضيها في الجزائر، وهي أشياء متعود عليها. ولكن الغريب أن الموظف أصر في أسئلته على الفرنسية، بينما الضيف لا يعرف هذه اللغة، بل يتكلم العربية الفصحى، ودخل الرجلان في حوار طرشان، لا أحد منهما يفهم كلام الآخر، إلى أن طلب ذلك الموظف من زميلة له أن تنوب عنه، ثم جرت المحادثة بعربية فصحى، وغادر الأكاديمي الإيطالي المطار وباله يغلي بسؤال: كيف يعقل أن بلدا لغته الرسمية العربية، بينما الناس يصرون فيه على لغة فرنسية؟ ففي زمن لا تزال فيه وسائل إعلام تشيطن الفرنسية في الجزائر، وتقول عنها إنها لغة استعمار، فإن من الناس من لا يرى غير الفرنسية بديلا في مخاطبة الأجانب، بل يصرون على هذه اللغة، مع علمهم أن من الأجانب من يتكلم العربية الفصحى فحسب.
بعد ستين عاما من استقلالها، لا تزال الجزائر يُنظر إليها من الخارج على أنها بلاد فرنكفونية، لاسيما بين الأوروبيين. والواقع يبرر كلامهم ونظرتهم. صحيح أن الفرنسية لغة لها حضورها ومكانتها، لكن اللغة الرسمية في البلاد، التي ترد في الدستور هي العربية (إلى جانب الأمازيغية). ولا يزال الأوروبي يتوقع سماع الفرنسية في الجزائر، قبل أن يصل إليها، أو يود سماع فرنسية عندما يلتقي جزائريا في المهجر، ولا يظنون أن الجزائريين يعرفون لغة أجنبية أخرى غير الفرنسية، بل يحصل أن نرى دهشة في محيا البعض عندما يسمعون جزائريا يتكلم اللغة الألمانية أو الإنكليزية.
وفي ظل هذا الجو اللساني المضطرب، يضطر كاتب باللغة العربية، في الجزائر، إلى بذل جهد مضاعف وأكبر من جهد كاتب آخر، من مصر أو سوريا. ففي بلدان أخرى هناك تقاليد راسخة في الثقافة العربية، وفي الأدب العربي، هناك بيئة عربية ينشأ فيها الكاتب، بينما في الجزائر يجد الكاتب نفسه مثل من يود صعود جبل، من أجل أن يظفر بمكانة له، ومن أجل أن يقنع الناس بالقراءة بالعربية. لأن واقع اللغة العربية في البلاد يعيش حالات قاسية، ومن السهل على كاتب أن ينشر أعمالا له بالفرنسية بدل العربية. بالفرنسية هناك سوق، ودور نشر وجمهور وقراء، بينما بالعربية فإن التلقي لا يزال ضعيفًا. من السهل على كاتب جزائري بالعربية أن يصير شهيراً في بيروت أو بغداد، لكن الأمر يتعسر عليه في بلده الأصلي، مع ذلك لا يزال كتاب شباب يبذلون جهدا من أجل مكانة لهم في وطنهم، من أجل أن تسترد اللغة العربية صحتها، من أجل اختراع جمهور لها، مع أن الطريق شاقة، ونظرة الأجانب عن البلد تلغي العربية، كما أن الناس في الداخل يرفعون من شأن الفرنسية عكس العربية، ولهم كذلك حجة في الأمر، لأن الفرنسية لغة السوق والعمل، بينما العربية لا تزال مهملة، تعليمها متعثر في المدارس، وحضورها طفيف في الشارع. وبات على الكاتب، الذي يختار العربية عن حب وجهد، أن يناضل على الجبهتين، على جبهة الأدب وما يقتضيه من شروط فنية، وعلى جبهة اللغة من أجل أن تكون لها مكانة تليق بها.