اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٩ تموز ٢٠٢٥
في لحظة سياسية حرجة، وبين ضجيج الشعارات والمصطلحات المستوردة، تتسابق الجهات المختصة في الأردن لمنح تراخيص تأسيس الأحزاب السياسية وكأنها تمنح صكوك 'الديمقراطية الجاهزة'. لكننا، إن كنا نريد إصلاحًا حقيقيًا، لا بد أن نواجه الواقع بشجاعة: هذا التوسع في ترخيص الأحزاب، غير المحكوم بضوابط وطنية صارمة، ليس دليلاً على التعددية، بل وصفة جاهزة لتفتيت العمل الحزبي وإفراغه من معناه.
إن التسرع في فتح الأبواب على مصراعيها لكل من شاء أن يؤسس حزبًا، دون رؤية استراتيجية واضحة، ودون تحديد أطر أيديولوجية وتنظيمية متماسكة، جعل من المشهد الحزبي الأردني مشهدًا كاريكاتوريًا، لا يليق بوطن يطمح لبناء نموذج ديمقراطي راسخ.
ما نراه اليوم ليس تعددية حزبية، بل تعددية شكلية تُغرق الفضاء السياسي في فوضى اللاجدوى. كل من أراد أن يُسجّل موقفًا، أو يَضمن حصة في مشهد مقبل، هرع لتشكيل حزب، غالبًا بلا برنامج، وبلا قاعدة، وبلا امتداد شعبي حقيقي. والنتيجة: أحزاب ورقية لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالعمل الحزبي الجاد.
الأردن ليس بحاجة إلى عشرات الأحزاب، بل إلى خمسة أحزاب قوية تمثل الاتجاهات الكبرى في الشارع الأردني: حزب وطني جامع، حزب ذو توجّه إسلامي معتدل، حزب قومي عروبي، حزب يساري اجتماعي، وحزب ليبرالي إصلاحي. هكذا تكون الخريطة السياسية واضحة، والخيارات أمام المواطن مفهومة.
لقد أفرغت 'موضة الترخيص' العمل الحزبي من قيمته، حين أصبح هدف بعض هذه الأحزاب ليس أكثر من تسجيل موقف، أو تأمين حضور صوري في انتخابات مقبلة. هذه الأحزاب لا تملك مشروعًا وطنيًا، ولا تنظيمًا داخليًا، ولا بُعدًا اجتماعيًا. إنها مجرد أسماء تُضاف إلى سجل فارغ من الفعل والتأثير.
نحن هنا لا ننتقص من قيمة التعدد، ولكننا نقف ضد العبث. التعددية لا تعني التكرار ولا النسخ، ولا تعني أن نسمح بتكاثر الأحزاب لمجرد إرضاء التوازنات الشكلية. ما نريده هو تنظيم حزبي حقيقي، ينبع من الناس ويعود إليهم، لا أحزاب تُصاغ في الصالونات وتُسجل في الدوائر، وتُعلن قبل أن تولد.
لذلك، فإن الواجب الوطني اليوم يفرض وقفة جادة ومسؤولة:
1. وقف منح تراخيص لأحزاب جديدة فورًا، إلى حين إعادة تقييم كامل للمشهد الحزبي وضبط معاييره.
2. إطلاق خطة دمج وطنية مدروسة، تُشجع الأحزاب القائمة على الاندماج ضمن كيانات كبرى وفق منهجية أيديولوجية وتنظيمية.
3. فرض شروط واضحة لتأسيس أي حزب، تبدأ من حد أدنى من العضوية الفاعلة، مرورًا ببرنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، وليس انتهاءً بهيكلة مالية شفافة وعلنية.
إن مسؤولية الدولة، والنخب، ومؤسسات المجتمع، أن تُعيد للحياة الحزبية احترامها وهيبتها، فليس من المقبول أن يتحول الحزب إلى مجرد لافتة فيسبوكية أو واجهة لغايات شخصية. لا نريد أحزاب علاقاتها بالعمل السياسي كعلاقة الماء بالنار.
في خضم ذلك، لا بد أن نقف مع الشعب الأردني، الذي بات يشعر بالإرهاق من هذا العبث، وبات ينظر بعين الريبة لكل من يتحدث باسم 'الإصلاح الحزبي' وهو يضيف رقمًا جديدًا إلى القائمة الطويلة من الأسماء المهملة.
كفى استخفافًا بعقول الناس. كفى تكرارًا لذات الخطأ. كفى إغراقًا في التفاصيل الشكلية على حساب بناء البنية التحتية للعمل السياسي الحقيقي.
إن الإصلاح السياسي لا يبدأ من كثرة الأحزاب، بل من جودة الأحزاب. من برامجها. من صدق التمثيل. من قدرتها على أن تكون صوت الناس، لا عبئًا عليهم.
وختامًا، فإن الطريق إلى حياة سياسية فاعلة، لا يمر عبر التراخيص، بل عبر التجذير. لا نريد طوفانًا حزبيًا هشًا، بل نهرًا حزبيًا صافيًا يروي جذور الدولة المدنية الديمقراطية التي ننشد.
والله في عون هذا الوطن، وشعبه، على عبء أحزاب لا تعرف من الحزبية إلا الاسم.