اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
سديه تيمان… تسريبٌ يهزّ دولة: من فيديو التعذيب إلى محاكمة الضمير الإسرائيلي #عاجل
كتب - زياد فرحان المجالي
في ليالٍ كهذه، لا يحتاج الصحفي إلى مجاز كي يصف ما يراه؛ تكفيه الكلمات العارية. شريطٌ مصوَّر يخرج من معسكرٍ صحراوي جنوب إسرائيل، يدور حوله الجدل كالإعصار، ويضع جيشًا كاملًا أمام مرآة لم يعد يطيق النظر فيها. ما جرى في سديه تيمان ليس مجرد 'تسريب” عابر، بل حدث تأسيسي يعيد رسم حدود النقاش حول أخلاق الحرب، وحدود السلطة، ومعنى 'الدولة” عندما تكتشف فجأة أن مؤسساتها تصطدم ببعضها البعض: جيشٌ يبرّر، قضاءٌ يتصدّع، وإعلامٌ يُحاصِر ويُحاصَر في الوقت نفسه.
من أين بدأت الحكاية؟
بحسب الوثائق العبرية التي تتبّعت التسلسل، خرجت إلى العلن مقاطع توثّق إساءة معاملة أسرى فلسطينيين داخل معسكر الاحتجاز في سديه تيمان. في اللحظة الأولى حاول المتحدث العسكري احتواء القصة بوصفها 'تصرفات فردية”. لكنّ الوقائع سرعان ما كبُرت: الأوامر التي ظهرت في المقاطع، نوعية المكان والمُعِدّات، طبيعة 'الطواقم”، كلها دلائل تشير إلى منظومة لا إلى انحراف فردي. هنا تحرّك المدّ الادعائي وبدأت التحقيقات الداخلية، فيما كانت المدعية العسكرية السابقة يفعات تومر على مقربةٍ من مركز الحدث، إذ تبيّن أن جزءًا من المواد المسرّبة مرّ عبر ملفات كانت في نطاق اختصاصها قبل استقالتها ثم اختفائها الذي أربك المؤسسة أكثر مما هدّأها.
هذه البداية حرّكت الأسئلة الكبرى: هل نحن أمام تسريبٍ خارج من ضميرٍ داخل المؤسسة؟ أم أمام تصفية حساباتٍ في أعلى الهرم العسكري–القضائي؟ الوثائق تميل إلى الخيار الثاني دون أن تنفي الأول؛ فالتسريب وُجّه سياسيًا، لكنه ما كان ليُحدث هذا الزلزال لو لم يكن الجوهر حقيقيًا وصادمًا.
الكنيست بين 'التصفيق” و”المساءلة”
دخلت القضية قاعة الكنيست. في لجنة الأمن القومي ارتفعت الأصوات: فريقٌ يميني يحمّل الإعلام 'ذنب التشويه” ويرى في التسجيلات 'سياقًا اقتُطع من ظرف العمليات”، وفريقٌ آخر – من داخل اليمين أيضًا هذه المرة – يطالب بلجنة تحقيق مستقلة حتى لا 'يتحوّل الدفاع عن الجيش إلى دفاعٍ عن الجريمة”. في قلب الجدل وقف سؤالٌ يتهرّب الجميع من الإجابة عنه: هل تغيّرت قواعد الاشتباك الأخلاقي للجيش بعد حرب غزة؟ الوثائق تنقل حرفيًا فكرة لافتة تكررت على ألسنة ضباط: 'تلاشت الحدود بين العقوبة والإذلال”. وهذه العبارة وحدها كافية لتفسير لماذا لم يعد شعار 'الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” قادرًا على الصمود أمام شاشة هاتف.
شقوق في صورة إسرائيل الدولية
لم تنتظر العواصم الأوروبية كثيرًا. سفاراتٌ تسأل، ومنظماتٌ حقوقية تجهّز ملفات إلى مجلس حقوق الإنسان، ووسائل إعلام غربية تستعيد سلسلةً من الفضائح التي بدأت منذ 'سديه تيمان” ولم تنتهِ عنده. وزارة الخارجية الإسرائيلية عقدت اجتماعات 'إدارة ضرر” مع سفرائها: كيف نرد؟ بأي لغة؟ هل نُشهِر الاتهام بـ”التسييس” أم نلوّح بـ”محاسبة داخلية” كافية لصدّ الضغط؟ على الأرض، لم يعد ادعاء 'التحقيق جارٍ” مقنعًا، لأن التسريب صار جزءًا من محكمةٍ علنية مفتوحة، يشاهدها العالم، وتشارك فيها منصات التواصل كهيئة محلفين لا يمكن إسكاتها.
التسلسل الخفي: من الكاميرا إلى الجمهور
تكشف الوثائق مسارًا تقنيًا لافتًا: عملية تصوير تمت على مدى أيام، بكاميرات غير بدائية، في نقاط مختلفة داخل المعسكر. أشخاص قلائل جدًا كانوا على علم بما يجري، والهدف الأول – كما تقول الإفادات – كان 'توثيق سوء الإدارة داخل سديه تيمان”. لاحقًا تبدّل الهدف: صار المقصود إحراج القيادة وإجبارها على الاعتراف. هذا التحول يشي بصراعٍ في مستويات القيادة الوسطى، حيث يشعر ضباطٌ بأنهم يُدفَعون لتحمّل مسؤولية قرارات اتخذتها مستويات أعلى.
المؤسسة تعترف… وتقاوم
اللافت في الشهادات التي جمعتها التحقيقات أنّ بعض الضباط لم يحاولوا الإنكار، بل اعترفوا بعباراتٍ مباشرة: 'نعم، حدثت تجاوزات”، 'نعم، فقدنا السيطرة على المعايير”. في المقابل، جاء رد وزارة الدفاع بصيغةٍ قانونية باردة: التحقيق جارٍ، الدولة متمسكة بالقانون، كل من يثبت تورّطه سيحاسَب. لكنّ السؤال الأخطر ظلّ من دون صاحب: من يحدّد معيار 'التجاوز” عندما تُعاد صياغة الأخلاق نفسها تحت ضغط الحرب والسياسة؟
إعلامٌ مقسوم على نفسه
تقدّم هذه القضية درسًا إسرائيليًا داخليًا نادرًا في كيفية اشتغال الإعلام في لحظات الأزمة. القناتان 12 و13 – الأكثر تأثيرًا – مارستا رقابةً ذاتية خشية الملاحقة أو الاتهام بـ”تعريض الأمن للخطر”. في المقابل، اندفعت صحفٌ ومواقع مستقلة إلى النشر المتدرّج: تسريبٌ بعد تسريب، وصورةٌ تجرّ صورة، حتى أصبحت المؤسسة الرسمية تركض وراء الفضيحة بدل أن تسبقها. مكتب رئيس الوزراء أعطى توجيهًا واضحًا: 'لا تسمحوا بتحويل القضية إلى سلاح بيد المعارضة”. لكنّ المعارضة لم تكن بحاجة إلى كثير من الجهد؛ يكفي أن تقول: إذا كان الجيش بريئًا فلماذا الخوف من لجنة تحقيق مستقلة؟
الائتلاف الحاكم في اختبار بقاء
تسرّبت ارتدادات الفضيحة إلى داخل الائتلاف. أقصى اليمين رأى في الأصوات المنتقدة 'تواطؤًا مع أعداء إسرائيل”، وبعض الليكوديين – خصوصًا من الجيل الأحدث – حذّروا من أن الاستمرار في إنكار الوقائع سيجلب ثمنًا سياسيًا فادحًا. هذه ليست قناعة أخلاقية بقدر ما هي قراءة براغماتية: إسرائيل في عزلةٍ متصاعدة بعد حربٍ طالت أكثر مما توقّعت، وأي ملف جديد يضيف طبقةً أخرى من 'أدلة الاتهام” سيزيد من كلفة الدفاع عنها في المحافل الدولية.
يفعات تومر: الشخصنة التي كشفت المأزق
في الخلفية، تظل قصة المدعية العسكرية يفعات تومر علامةً فارقة. استقالتها ثم اختفاؤها الغامض ثم عودتها حيّة بعد ضجةٍ إعلامية، كلها حلقات سردية كثيفة المعنى. لقد تحوّلت المرأة إلى رمزٍ لصراع الضمير داخل المؤسسة: هل شاهدت الفيلم السري؟ هل قرّرت مواجهة النظام فوجدت نفسها خارجه؟ أم أنّها جزءٌ من صراعٍ سياسي–قضائي لا يختلف كثيرًا عن اشتباك الجنرالات؟ ما نعرفه يقينًا أن قصتها صبّت الزيت على نارٍ مشتعلة: أعادت تعريف السؤال من 'ماذا حدث للأسرى؟” إلى 'ماذا يحدث لجيشٍ يطارد مدعيته العامة؟”.
أخلاق الحرب… حين تتآكل من الداخل
تقوم أسطورة الجيش الإسرائيلي على ركيزتين: الكفاءة العملياتية والتفوق الأخلاقي. الأولى تلقّت ضربةً قاسية في غزة، والثانية تتهاوى اليوم في سديه تيمان. ليست المسألة أنّ الجنود قساةٌ بطبعهم؛ المسألة أنّ الدولة كلّها غيّرت تعريف 'القسوة” و”الضرورة”. حين تبرّر القيادة التعذيب باسم 'الاستخلاص السريع للمعلومات”، فإنها لا تمنح الجنود رخصةً فحسب، بل تمنح نفسها عذرًا مسبقًا للهزيمة الأخلاقية. وإذا كانت الحرب اختبارًا لصلابة الجيوش، فهي أيضًا امتحانٌ لأعصاب القضاة والإعلام والسياسيين: من الذي سيصمد عندما تُعرض الحقيقة بلا مونتاج؟
أزمة الثقة: الداخل قبل الخارج
يوحي النقاش العام في إسرائيل بأن الشارع ليس موحدًا؛ هناك من يرى أن 'أمن الإسرائيليين فوق كل اعتبار”، وهناك من يصرّ على أن الأمن بلا قانون هو فوضى منظّمة. لكن ما يُخيف المؤسسة ليس الأصوات اليسارية المعتادة، بل تآكل الثقة داخل جمهورها التقليدي: عائلات جنودٍ تسأل، محاربون قدامى يكتبون شهاداتهم، ضباط احتياط يرفضون الخدمة احتجاجًا على 'تسييس الجيش”. هذه ليست أصداء هامشية؛ إنها شروخٌ في صخرةٍ بُني فوقها الكثير من 'الدعاية المؤسِّسة”.
إدارة الضرر أم إدارة الحقيقة؟
بين 'إدارة الضرر” و”إدارة الحقيقة” مساحةٌ أخلاقية تحدّد مصير ديمقراطيات كثيرة. إسرائيل – كما تبدو في المرآة الآن – تميل للخيار الأول: الإيحاء بالعقاب، تلوين الخطاب، تحويل النقاش إلى معركةٍ مع الإعلام أو المعارضة أو 'العالم المعادي”. لكنّ التجربة تقول إن الضرر الأخلاقي لا ينكمش بالإنكار؛ بل يتضخّم. وكلما تراكمت الحالات، صار السؤال الوجودي أكثر حدّة: بأي حقٍّ نطلب من الجنود أن يكونوا أخلاقيين، ونحن – كمؤسسة – نكافئ من يخرق الأخلاق؟
لماذا يهزّ تسريبٌ واحد دولةً كاملة؟
لأن الدولة التي تبني سرديتها على فكرة الاستثناء الأخلاقي لا تحتمل صورةً واحدة تنقضها. لقد عاشت إسرائيل عقودًا تُذكّر الغرب أنّها 'الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” وأن جيشها 'الأكثر انضباطًا”. حين يسقط القناع، لا تسقط دعايةٌ فقط؛ تسقط مفاتيح الشرعية التي تُبرر بها الدولة استخدام القوة والدعم الخارجي. لهذا السبب تتعامل المؤسسة مع سديه تيمان كخطر وجودي لا أخلاقي فحسب: إنّها الثغرة التي تقود إلى صندوقٍ مليءٍ بالأسئلة المحرَّمة.
سيناريوهات ما بعد العاصفة
1. لجنة تحقيق مستقلة: قد يُضحّي الائتلاف برؤوسٍ إدارية لإقفال الملف سياسيًا، مع توصياتٍ شكلية تعيد تعريف 'المسموح” و”الممنوع” بدل الاعتراف بجذر المشكلة.
2. قضية تتدحرج دوليًا: إذا دفعت منظمات حقوقية باتجاه تحقيق أممي، سيصبح الملف جزءًا من سرديةٍ أكبر عن 'جرائم الحرب” في غزة، وهنا تتحوّل سديه تيمان من حالة إلى دليلٍ محوري.
3. تصدّع داخل الجيش: استمرار التسريبات – وهو مرجّح – سيزيد من انعدام الثقة بين القيادة والجنود، وقد يدفع إلى تمردٍ أخلاقي صامت: رفض أوامر، تسريبات جديدة، شهادات علنية.
4. تعويم القضية: وهو سيناريو إسرائيلي مألوف؛ إغراق الفضاء بملفاتٍ أخرى، تصعيد أمني، أو تحويل الانتباه إلى 'تهديدٍ خارجي” لاستعادة 'وحدة الصف”. لكنه علاجٌ قصير الأجل، ينجح إعلاميًا ولا يبني ثقةً مستدامة.
ماذا تعلّمنا من سديه تيمان؟
أنّ الأخلاق ليست ترفًا في إدارة الصراع، بل أصل الشرعية السياسية. وأنّ المؤسسات عندما تكذب على نفسها تفقد القدرة على إدارة أزماتها. وأنّ الإعلام الحرّ – مهما تعرّض للضغط – يملك قدرةً عجيبة على حياكة الحقيقة من خيوطٍ صغيرة. وأخيرًا، أنَّ الفيديو القصير قد يفعل بالدول ما لا تفعلُه سنواتٌ من الخطابة: يضعها أمام ذاتها بلا رتوش.
خلاصة مفتوحة
لم يكشف تسريب سديه تيمان 'سرًا” عنيفًا بقدر ما كشف نمط تفكير؛ دولةٌ خرجت من حربٍ طويلة بجرحٍ في صورتها ومعنى وجودها، فقررت رفع صوت القوة لتُسكت صوت الضمير. لكن الضمير – حين ينجو مرة – يعود أكثر صلابة. لذلك تبدو هذه القضية علامةً على زمنٍ جديد: لن تُحاكَم إسرائيل فقط أمام محاكم الخارج، بل أمام محكمةٍ داخلية بدأت بالفعل: قضاةُها الصحافة، شهودُها الضباط، وجمهورها جنودٌ يعرفون أن ما فعلوه لن يُمحى بمؤتمر صحفي.
إنّ الزلزال الحقيقي ليس ما ظهر في المقطع؛ بل ما سيتبعه من إعادة تعريفٍ لما يجوز وما لا يجوز في دولةٍ أرادت دائمًا أن تكون 'استثناءً أخلاقيًا”. التسريب حفر أخدودًا في الرواية الرسمية، ومن الصعب ردمه بإنكارٍ أو تذاكٍ سياسي. لقد بدأ زمن محاكمة الضمير الإسرائيلي، وسديه تيمان هو قاعة الجلسة الأولى.












































