اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٦ أب ٢٠٢٥
المفتاح وذات الرؤيا كل ليل
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
تراوده ذات الرؤيا في كل منام، تحاصره في هدأة الليل عند الغسق، يبحث تارة عن المفتاح، لا يجد السيارة، لقد ركنها هناك في المصف عند آخر البناية، قرب شاطيء الأيام، نفس البناية التي تشبه خنجراً يغرس نصله في قلب الصحراء، صوب إيلة وكأنما هو يذبح البترا. بحث عن تفسير لتلك الرؤيا في ذاك الحلم كل ليلة منذ أمد بعيد، منذ أشهر بلا سنين، بحث مع إبن سيرين والعسقلاني عن تفسير العودة في حلم الحيرة والضياع، بحث عن سر إمه لما ترافقه في المنام، وما تبحث في رقبتها عنه، سأل المفتاح.
أحياناً، يضيع في مدارج الطائرات يفتش عن البوابة ورقم الرحلة إلى الإياب، وأحياناً تحلق الطائرة فوق شلالات بعضها من ماء وأخرى بلون الدم. وذات حلم رأى شلال كاد يصله قرب النافذة بين الغيوم، حار في أن يدع الخوف يتسلل ستار النافذة أم يوصد الحلم ويغلق الغيوم، ثم تعجب من ذاك السؤال عن الطوفان، أصاب أم أدى إلى هلاك ودمار، ذاك السؤال الذي أضحى اليوم يحاكم الحلم، على أشلاء الطفولة والمجاعة والسؤال الذي يذبح القمر مع هبوب الليل. يقلقه هذا السؤال العجيب، سؤال يطعن الحلم، سؤال غريب يتردد على الشاشات المكيفة التي تستوضح العروبة، لعنة هي أم عقوبة، وكأنما بغداد المكلومة حينما نعت دمشق نسيت صنعاء وعدن، وكأنما القدس غرقت في سمن وعسل، وكأن مدن الملح كانت تطفو على نهر عذب، وقبل الطوفان كأن القاهرة كانت حديقة، وكأن طرابلس الغرب ممزقة تهدي أختها في الشرق اكاليل العزة والنصر. عجيب أمر ذاك السؤال حين يكون صاحبه من أمة العرب، يجهل الأمس واليوم ويغرق في تفاهة الساسة. عجيب أمر السؤال والحلم وعرب يتحاورون يوماً بالكبريت والنار، ويوماً يتقاذفون تهم السطحية، يطعنون الشهادة والطوفان.
أحياناً، يأتيه ظل السامري في دجنة العتمة، يخرج العجل ويذبح البقرة، يثأر من فرعون وبابل وآشور، ومن جبل اللوز يصبو صوب بساتين خيبر يطلب دية بني قريظة والنضير. يرى السامري أحياناً يسخر من موسى وهارون ويرفع راية داود فوق النيل، لا حبل يكفيه من الله والناس، لا أرض ترضيه لا سلام ولا الفرات، بل الانتقام من التراب والتاريخ، الثأر من البشر والحجر والشجر، وكل حرف وكلمة في رواية الذل والسبي والشتات.
لطالما أتعبه ذاك الحلم بحثاً عن الرؤيا والدار، أرهقه الصحو والمنام وسر ضياع المحبة، سئم الارتحال في حيرة الليل، وأسفاره في غيبة المفتاح. أصبح يأوي إلى قلبه هرباً من المنام، يفر إلى خريف عمره خوفاً من أمه وحلمه، يبحث عن الفروسية في أرشيف الزمان، عن البطولة في غابر الأيام، يبحث عن كل الأسئلة والأجوبة في صفحات الغمة ما عدى الطوفان. اليوم يخشى الحلم وذاك السؤال، ما زال يتحرى دروب الرجعة والإياب ويبحث عن السيارة، يطارد الخيال ويسابق الريح، يأنس بمنى العودة إلى القرية والحاكورة وكرم التين والزيتون، وكل جمال فلسطين التي لم يرها قط سوى في ذاك الحلم والمنام.