اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٧ تموز ٢٠٢٥
رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في ظل الأرقام المتصاعدة التي تُعلن عن تمويل هائل للشركات الناشئة في الأردن، يتشكل لدينا انطباع بأن الريادة في ازدهار مستمر. لكن الواقع يكشف عن تحديات مؤسسية عميقة لا يمكن تجاهلها، فنجاحات فردية تتلألأ وسط بيئة تحتاج إلى إعادة بناء حقيقية. هذا المقال يأخذك في جولة صريحة ومباشرة لتحليل واقع ريادة الأعمال الأردنية، مع تقديم مقترحات جريئة تُعيد رسم مستقبل أكثر استدامة وحيوية لهذا القطاع الحيوي.
كلّما ارتفعت الأصوات على المنصّات والمؤتمرات، تتردّد أرقام ضخمة عن تمويل الشركات الناشئة في الأردن، حيث يُشار إلى 443 مليون دولار للفترة 2018–2024. يُقدّم هذا الرقم على أنه «قفزة تاريخية» ويُحتفى به كعلامة نجاح. لكن تضخيم أرقام التمويل دون التوقف عند أصولها ومساراتها ومكامن ضعفها لا يُنتج بيئة استثمارية راسخة. فالاحتفال بالأرقام بمعزل عن التحليل يُعرّض الأردن لخطر الوقوع في فخ (الاطمئنان المخادع) وان حجم التمويل الفعلي حسب مصادر موثوقة مثل Magnitt ووزارة الاقتصاد الرقمي خلال الفترة 2018–2022 بلغ نحو 246 مليون دولار عبر 220 صفقة. وهذا الرقم لا يمثل إلا حوالي 7% فقط من حجم التمويل الإقليمي الذي تجاوز 3.5 مليار دولار في ذات الفترة، مما يوضح أن الأردن يستحوذ على حصة صغيرة نسبياً في سوق ريادة الأعمال الإقليمي.
تُبيّن البيانات أنّ 178 شركة فقط تعمل فعلياً من داخل البلاد، بينما اختارت 23 شركة تأسيس مقارّها خارج الحدود، في إشارةٍ صريحة إلى أن السوق المحلي لا يكفي لتغذية طموحات التوسّع. الأهم أنّ 288 مليون دولار، أي أكثر من ثلثي الإجمالي، صُبَّت في تلك الشركات المحليّة عبر 262 صفقة، فيما حصدت شركات الأردنيين في الخارج 155 مليون دولار بسبعٍ وعشرين صفقة أكبر حجماً وأقل عدداً. فجوةٌ تمويلية كهذه تكشف أنّ المستثمرين يؤمنون برواد الأعمال الأردنيين أكثر ممّا يؤمنون بقدرة الأردن نفسه على استيعاب النمو.
عام 2021 يقدَّم غالباً بوصفه «عاماً ذهبياً» إذ وحده استحوذ على 123.4 مليون دولار بفضل أربع جولات كبرى: Eon Dental و OpenSooq وAbwaab وTamatem. هذه القفزة تفوَّقت بأكثر من ثلاثة أضعاف على أي عامٍ آخر في الفترة المدروسة، لكنها جاءت نتيجة «صفقاتٍ وحيدة» لا ديناميكيةٍ سوقيةٍ مستمرة؛ إذ انخفض التمويل مجدداً مع ارتفاع أسعار الفائدة العالمية وتراجع شهية رأس المال المخاطر. من هنا تبدو طفرة 2021 أقرب إلى لقطةٍ إعلانية من كونها اتجاهاً بنيوياً.
ومع ذلك، يحرص المسؤولون على الاستشهاد بتصنيف StartupBlink الذي يضع الأردن في المرتبة 69 عالمياً والخامسة عربياً في مؤشرات بيئة الشركات الناشئة. لكن ما لا يُقال هو أن المؤشر نفسه يُدرج الأردن تحت خانة «التراجع النسبي» عاماً بعد آخر، في الوقت الذي قفزت فيه السعودية 14 مرتبة في الفترة ذاتها. فعلى الورق، قد يبدو هذا الترتيب مقبولاً، لكن في الواقع السوقي، هو يعني أنك تروّج لمستثمر دولي منظومةً أقل جاذبية من مدن مثل باكو أو كيب تاون، ضمن بيئة تشريعية تتسم بالبطء والتعقيد.
بعيدًا عن عمّان، تكاد تختفي الشركات الناشئة من خارطة المحافظات. ففي الوقت الذي نجحت فيه مشاريع زراعية مدعومة من صندوق REGEP التابع لـ JEDCO بتمويل نحو 7 ملايين دولار في محافظات مثل مادبا والطفيلة والمفرق، إلا أن التمويل موجه بشكل كبير للزراعة التقليدية، لا لابتكارات أو مشاريع ريادية تكنولوجية.
في إربد والكرك وجرش، لا تزال بيئة الأعمال تعتمد على المبادرات الفردية، وسط غياب الحاضنات الفاعلة وصناديق التمويل المرحلي. رغم وفرة المواهب، يفتقر الرياديون في تلك المناطق إلى التوجيه والتمويل، ما يجعل عمّان مركز الجذب الوحيد، ويعزز من المركزية الاقتصادية والمعرفية.
ومن أبرز التحديات الحقيقية الواقعية أن هناك نسبة من المستثمرين يرون أن الشركات الأردنية غير ناضجة، وهنالك من يشتكون نقص المهارات التخصصية، ومنهم من لا يجد ميزة تنافسية واضحة في معظم المشاريع.
هذا النقد لا يعكس فقط ضعف السوق المحلي، بل يسلط الضوء على هشاشة الإطار المؤسسي والتعليمي الذي يخرّج مشروعات 'تبدو' تقنية، لكنها بلا أساس تكنولوجي متين. أما على المستوى التشريعي، فالتحديات ما زالت قائمة: صعوبة تسجيل الشركات، تعقيدات إغلاقها، وضرورة المواكبة للإطار التشريعي بشكل عصري للقطاعات.
للنهوض بالمنظومة الريادية في الأردن، لا يكفي الترويج للأرقام؛ بل يتطلب الأمر معالجة عميقة وشجاعة. نقترح ما يلي:
تحديث البنية التشريعية: تبنّي منصة إلكترونية موحّدة لتسجيل وإغلاق الشركات، مستوحاة من نموذج “One Click” السعودي.
* إطلاق صندوق تمويل مرحلي (Bridge Fund) بشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، لردم الفجوة بين تمويل البذرة والجولة الأولى، بقيم تتراوح بين 50–200 ألف دولار.
* تحفيز الريادة في المحافظات: دعم الحاضنات الريفية، ومنح تمويل مخصص للمشاريع التقنية والخدمية خارج العاصمة، مع إعفاءات ضريبية لثلاث سنوات للشركات التي تؤسس في تلك المناطق.
* إصلاح بيئة التمويل المالي الرقمي: تمكين البنك المركزي من إصدار تشريعات حديثة للمدفوعات المفتوحة وتسهيل إجراءات الامتثال.
* تعزيز العلاقة بين الجامعات وحاضنات الأعمال: دعم المشاريع التكنولوجية الجامعية، وربطها بصناديق التمويل والملكية الفكرية.
* ربط الأردن بسلاسل القيمة الخليجية: من خلال شراكات تكاملية مع دبي والرياض، لا مجرد التصدير العكسي للمواهب.
خلاصة الأمر أنّ تقرير ZINC، بكل ما يحتويه من بيانات لامعة، يشبه مرآةً ذات وجهين: من جهة يعكس قدرة الأردنيين على نحت قصص نجاح فردية؛ من جهة أخرى يفضح هشاشة الإطار الذي يحيط بهذه القصص. ما لم يتحوّل التركيز من تلميع الأرقام إلى إزالة العوائق التشريعية، وضخ رأسمال محلي طويل الأجل، ودمج الأردن فعلياً في سلاسل القيمة الخليجية، فستظل المنظومة تدور في حلقة «قمة – هبوط – احتفال» تستهلك الزمن والطموح معاً. الوقت ينفد، والفرصة التالية قد لا تنتظر سبع سنوات أخرى من التجميل الرقمي.
الفرصة الإقليمية تتحرّك بسرعة، وإذا واصلنا العمل بنفس الأدوات، سنبقى على هامش الهامش. المطلوب اليوم ليس تكرار النجاحات الفردية بل تحويلها إلى منظومة متكاملة. فإما أن نؤسس لاقتصاد ريادي شامل يتوزع من عمان إلى العقبة، ومن إربد إلى معان، أو نظل ننتظر 'التمويل القادم' كأنه حدث عابر.
الوقت لا ينتظر، والمنطقة لا ترحم المتأخرين.