اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
على مشارف التخرّج: لقاء الخبرة بالحُلم... أساتذة الكيمياء في الجامعة الهاشمية يرسمون طريق الإبداع لطلبتهم
الكاتبة نور مصلح أبو صعيليك، تخصص الكيمياء، الجامعة الهاشمية
بدأت رحلتنا الجامعية بمزيج من الطموح والتساؤل، قادها الحُلم وسار معها العقل، في الكيمياء، لم ندرس مساقًا واحدًا، بل أربعة مساقات رئيسية: التحليلية، والعضوية، والفيزيائية، وغير العضوية، لكلٍّ منها عالمه ومفاتيحه. ومع بزوغ الكيمياء الخضراء، توسع العلم ليشمل حماية البيئة وخدمة الإنسان، هنا نُصغي لأصوات الخبرة، ونرسم مستقبلنا على ضوء التجربة، رؤى أساتذة الكيمياء في الجامعة الهاشمية حول المستقبل العلمي والمهني.
الكيمياء التحليلية: بين التطبيق العملي وتطوير الذات
وفي خضمّ هذا المشهد المتداخل بين الذكريات والتطلّعات، يبرز صوتُ الخبرة متمثلًا في الدكتور جعفر الفقيه، دكتور في الكيمياء التحليلية ورئيس قسم الكيمياء، الذي شاركنا بعضًا من رؤاه العميقة التي اختزلت سنواتٍ من العطاء الأكاديمي والمهني.
يؤمن الدكتور جعفر أن الكيمياء التحليلية ليست مجرد تخصصٍ جامد، بل هي انعكاسٌ حيّ لتطبيقات الكيمياء في الحياة الواقعية، وأن الطالب في مرحلة البكالوريوس يمتلك من الأدوات ما يؤهّله للإبداع في القطاع العملي، شرط أن يُراجع ما تعلّمه ويُعيد ترتيب معارفه قبل أن يخوض غمار هذا العالم الرحب.
ولأن البحث العلميّ امتدادٌ للحياة لا انعزالٌ عنها، يرى أن مواكبة التطورات العالمية والاهتمام بتوجّهات البحث الرائج هو ما يصنع الفرق، وهو ما دفعه لمواصلة الدراسات العليا رغم محدودية الأبواب في البداية، كما أكّد على أن العلم لا ينفصل عن واقع الإنسان وهويته وفكره، وهي قناعةٌ جعلته يتردّد في الاستقرار في بلادٍ لا تشبههُ في القيم والمبادئ.
ويرى الدكتور جعفر أن الكيمياء خاصةً في ظل تسارع التكنولوجيا، لا تفقد قيمتها، بل تزداد قابليتها للتكيّف والاندماج مع متغيرات العصر، لذا من الضروري أن يتحلّى الكيميائيون بالمرونة ويستثمروا وقتهم في تطوير ذواتهم.
وقد شدّد على أهمية العمل التطوعي في بيئات العمل الكيميائية خلال سنوات الدراسة، لما له من أثر في صقل المهارات وبناء الثقة، مؤكدًا أن الكسل وتضييع الوقت هما آفة الجيل الجديد، وأن كل خطوة نحو التقدّم، مهما كانت صغيرة، تستحق أن تُؤخذ بجدية.
أما مهنة التدريس، فهي برأيه ليست قطيعة مع ما حصده الطالب من علمٍ خلال سنوات دراسته، بل هي امتداد طبيعي لمسارٍ بدأ داخل القاعات، ويستمر في ساحات التعليم، حيث تكمن القيمة الحقيقية في القدرة على إيصال المعرفة والتفاعل الصادق مع الطلبة.
وللخريجين الجدد، يوجّه نصيحته بأن يعتنوا ببناء سيرة ذاتية قوية، وأن يواصلوا التطوّر في مجال تخصصهم، إذ لا ينبغي إهدار سنواتٍ قضيت في دراسة الكيمياء، بل يجب أن تكون أساسًا تُبنى عليه الطموحات، وإن أرادوا التوسّع في مجالات أخرى، فليكن ذلك على هامش اهتمامهم الرئيسي، لا على حسابه.
البحث العلمي والصناعة: طريقان في خط واحد
وفي زاوية أخرى من مشهد الخبرة، يطلّ الدكتور نايف الجعار أستاذ الكيمياء العضوية والمتخصص في تحضير المركبات غير المتجانسة، ليؤكد أن الأبحاث الأكاديمية والتطبيق الصناعي لا ينبغي أن يسيرا في خطين متوازيين، بل في طريقٍ واحدٍ متكامل، إذ إن البحث العلمي هو الأرض التي يُزرع فيها الابتكار قبل أن يُحصد في الواقع، ويرى أن على القطاع الصناعي أن يؤدي دوره في دعم البحث الجامعي، ليس فقط لتحقيق التقدّم، بل لضمان استدامته.
وعلى الرغم من التوجّه المتزايد نحو الصناعات النباتية، فإن الدكتور نايف يشدّد على أن الكيمياء العضوية لا يمكن تهميشها، فهي التي تمنح هذه الصناعات أدواتها وأساسها العلمي، ومن غير الرجوع إلى الأبحاث الأكاديمية، يصعب تحقيق أي تطوّر فعلي، ومع أن سوق العمل في هذا المجال داخل الوطن العربي لا يزال محدودًا، مقتصرًا في الغالب على قطاعي التعليم والصناعة، إلا أن الفرص في الخارج أوسع، وهو ما يشكّل فجوة حقيقية يلمسها الكثير من الخريجين في الوقت الراهن.
وفي تقييمه لتجربة التعليم الإلكتروني التي رافقت جائحة كورونا، يرى الدكتور نايف أنها ليست خيارًا مناسبًا لتدريس التخصصات العلمية، فالتجربة الجامعية لا تقتصر على المحتوى المعرفي، بل تشمل التفاعل المباشر والاندماج مع الكوادر التدريسية، مما ينعكس بشكل مباشر على تكوين شخصية الطالب وتنمية مهاراته.
وفي ختام حديثه، يوصي الطلبة المقبلين على التخرج بالتمكن من المادة العلمية، دون أن يُغفل أهمية إتقان اللغة الإنجليزية، التي باتت شرطًا لا غنى عنه في بيئات العمل المعاصرة.
الكيمياء الفيزيائية: فهم لا حفظ
ومن زاوية الكيمياء الفيزيائية، ينقل الدكتور علي إسماعيل رؤيته بأن العلم لا يُدرَس ليُحفظ فقط، بل ليُفهم ويُمارس، ويؤمن بأن طرح الأسئلة هو المدخل الأهم لفهم المادة العلمية وربطها بالحياة اليومية، وأن على الطالب ألا يكتفي بتلقي المعلومة، بل أن يتحدّى نفسه للبحث عن إجابات توسّع مداركه، سواء على مستوى الدراسة أو البحث العلمي.
ويشير إلى أن إحدى العقبات التي واجهته كطالب كانت الاقتصار على حفظ المحتوى دون النفاذ إلى جوهره، داعيًا إلى كسر هذا الحاجز من خلال ربط المادة بالواقع، وتسهيل فهمها عبر إثارة الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها.
وفي ظلّ الانتشار المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، يرى الدكتور علي فرصة كبيرة لتوظيف هذه الأدوات بطريقة علمية توسّع من آفاق الطالب وتدعمه في رحلته التعليمية، على عكس ما كان عليه الحال في زمن دراسته، حين كانت مصادر الأسئلة والفهم محدودة.
ويؤكد أن الشغف هو جوهر دراسة وتدريس الكيمياء، وأن مهنة التعليم تحمل في طيّاتها رسالة عميقة يحاول إيصالها لكل جيلٍ جديد، رغم التحديات في تقبّل النصيحة المباشرة من قبل الطلبة المعاصرين، الذين غالبًا ما يثقلهم التوجيه الصريح. ويستذكر الدكتور علي نصيحة لطالما رافقته من أحد أساتذته: 'وظيفة الدكتور الجامعي ليست فقط أن يعطيك العلم، بل أن يوجّهك إليه، ويعلّمك كيف تبحث عنه'، وهي قاعدة ذهبية يؤمن بها ويحرص على نقلها لطلّابه، إذ يرى أن دوره هو تمهيد الطريق، أما السير فيه، فهو مسؤولية الطالب ورحلته الشخصية.
ويرى أن تبسيط المادة العلمية ضرورة، لكن لها حدودها، فلكل مشكلة مستوى علمي وثقافي وعمري يجب احترامه، وإن تجاوز الطالب حدّ التبسيط دون تعمّق، فهو لم يدرك جوهر المادة بعد.
ويشدّد على أن التبسيط بداية ضرورية للفهم، ولكن لا بد أن يقودنا في النهاية إلى كيفية تطبيق العلم في حياتنا العملية. أما عن التحديات التي يواجهها الطلبة في مادة الكيمياء الفيزيائية، فيرجع ذلك إلى الصعوبة التي تنشأ من ارتباط المادة بالمفاهيم الرياضية.
ومن هنا ينصح الطلبة ببناء قاعدة رياضية قوية في مادة رياضيات دون الخوض في تعقيداتها، والتركيز على فهم المطلوب من كل جزئية بدقة، لأن الكيمياء الفيزيائية في نظره، تشكّل حلقة وصل بين مختلف فروع الكيمياء، وتتطلّب وعيًا عاليًا وتعاملاً دقيقًا لفهمها والتفاعل معها بعمق.
الكيمياء التحليلية البيئية: تلاقٍ بين التخصصات
ومن عمق الكيمياء التحليلية البيئية، يشاركنا الدكتور أمجد الشيخ رؤيته حول هذا الفرع الذي بات مستقلًا ومتداخلًا مع ميادين عديدة كالزراعة والطب والبيئة، وهو ما يجعله أكثر أهمية في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم.
ويؤكد الدكتور أمجد أن الذكاء الاصطناعي، رغم انتشاره، لا يُقصي دور الكيمياء التحليلية، بل يُعد أداة مساعدة للباحثين والطلبة في أداء مهامهم، موجّهًا وميسّرًا، دون أن يلغي دورهم الفعلي في إنتاج المعرفة. فلو كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على إلغاء دور هذا التخصص، لكان أولى به أن يلغي العلوم كافة، وهو ما لا يمكن أن يحدث.
وفي سياق تجربته التدريسية، يرى الدكتور أمجد أن أداء الطلبة في مادة 'البحث والندوة' تطوّر تدريجيًا، فبينما كان التعامل معها سابقًا يتم بسطحية، باتت اليوم تُعامل كمادة ذات طابع مميز، تمنح الطالب فرصة ليقدّم مشروعًا يعكس قدراته وفكره، لا مجرد شرطٍ للتخرج. ويُشدد على أهمية أن يُبدع الطالب في مشروعه، وألّا يلجأ إلى النسخ الجاهز، لأن ذلك خداع للنفس قبل أن يكون غشًا للأستاذ.
ورغم ذلك، فإنه يعبّر عن تفاؤله بما يراه مؤخرًا من اجتهاد وأفكار خلّاقة يقدّمها الطلبة في مشاريعهم. وعن العلاقة بين الدراسة الأكاديمية وسوق العمل، يرى الدكتور أمجد أن المشكلة ليست في محتوى التخصص، بل في غياب برنامج دراسي فعلي يُهيّئ الطالب مباشرة للاندماج المهني.
ويؤكد أن هذه الفجوة لا تقتصر على الكيمياء، بل تشمل معظم التخصصات الجامعية، فغالبًا ما يجد الطالب نفسه في بيئة عمل تختلف في تفاصيلها، لا من حيث الأساس العلمي الذي درسه، بل من حيث غياب التدريب المسبق على هذه البيئات. ويختتم الدكتور أمجد حديثه بنصيحة يوجّهها للطلبة المقبلين على التخرج، مفادها أن لا يسارعوا إلى الالتحاق ببرامج الدراسات العليا فور حصولهم على درجة البكالوريوس، بل عليهم أولًا أن يخوضوا تجربة سوق العمل. فذلك يساعدهم على مغادرة عقلية الطالب التقليدية، والدخول في مرحلة أكثر نضجًا ووعيًا، مهنيًا وشخصيًا، وهو ما لمسه بنفسه من الفارق بين من خاض هذه التجربة، ومن انتقل مباشرة من مقعد الدراسة إلى مقعد الدراسات العليا.
الدكتور لؤي المومني: شغف الكيمياء العضوية بين التجربة والرسالة
في حضرة الكيمياء العضوية، تقف المعرفة كما لو كانت بابًا موصدًا لا يُفتح إلا لمن طرقه بالعزم، وصبر على غموضه، وارتضى أن يتشرّب تفاصيله كما تتشرّب المركبات خصائص بعضها في تجارب المختبر. هناك، حيث تنكمش الحقائق خلف رموزٍ معقّدة، وتتكشّف الأسرار لِمَن آمن أن هذا العلم ليس مجرّد مادة دراسية، بل حكاية شغف طويل، يُعيد فيها الدكتور لؤي المومني رسم ملامح الفهم بشجاعة المُجرّب، وحنكة المُعلّم.
إذ يقول الدكتور لؤي المومني إن العقبة الأولى التي تعترض طريق الطالب في الكيمياء العضوية ليست صيغها ولا معادلاتها، بل رهبة الاقتراب من علمٍ يبدو للوهلة الأولى صلدًا، شديد المراس، لكنه، في عمقه، يحمل من المتعة ما لا تبوح به السطور، ولا تَشي به القوانين، هو علمٌ يشبه الحياة نفسها: لا يُمنح إلا لمن يقبل أن يخوض فيه بكامل وعيه. ولأن الحلم لا ينمو إلا في أرضٍ تُروى بالمعرفة، يعود الدكتور من غربته مُحمّلاً بزادٍ علميّ، لم يَحصره في أوراق ولا شهادات، بل حمّله رسالةً نحو وطنٍ يؤمن أن التقدّم فيه لا يُبنى إلا بالعلم، ولا يُثمر إلا إذا عانق البحث العلمي احتياجات المجتمع، وتواطأت المؤسسات على صناعة بيئةٍ تُنبت الأمل.
وفي القاعة كما في المختبر، لا يرى الدكتور لؤي أن الكيمياء العضوية تُدرّس من بعيد، أو تُروى من على منصّة، بل تُعاش تُلمس، تُرى وهي تتشكّل بين أنابيب الاختبار ونماذج المحاكاة ثلاثية الأبعاد، فالعقل لا يعي ما لا يرى، والحقيقة لا تُفهم إن لم تُجسّد؛ لذا يدعو إلى تعليمٍ يمزج بين التجريب الواقعي والتقنيات الحاسوبية، حيث يتحوّل الرمز إلى صورة، والمعادلة إلى حكاية.
ورغم اعترافه بدور التعليم الإلكتروني، يراه معبرًا وقت الحاجة، لا بديلاً عن لقاء الطالب بالأستاذ، أو عن لحظة الاكتشاف في عيون من فهم للتو تركيب جزيءٍ ما كان يظنه عصيًّا على الفهم. ومع كل هذا، تلمع في حديثه جذوة الأمل بما يُعرف اليوم بـالكيمياء العضوية الخضراء، التي لا تكتفي بأن تُعلّم، بل تسعى لتُصلح، ولتجعل المختبرات واحاتٍ آمنة للبيئة والإنسان.
حلمٌ نبيل يرى فيه الدكتور لؤي مسارًا جديدًا لأبحاثه، لكنه يدرك أن الحلم لا يكفي وحده، ما لم تتكاتف الجامعات، والقطاع الخاص، والصناعة على تحويله إلى واقع ملموس.
وعند نهاية الحديث، يضع الدكتور لؤي كلمته لمن يفكّر في السير بهذا الدرب: 'لا يكفي أن تحب الكيمياء العضوية، بل لا بد أن تفقه لغتها، وتُحسن الإصغاء إلى فروعها كلها، فالعلوم لا تنفصل، والرحلة لا تكتمل إلا إذا نظرتَ إلى الكيمياء كنسيجٍ واحد، تتعانق خيوطه ليروي قصة الكون'، وهكذا، تمتزج لحظة التخرّج بصوت التجربة، ويُكمل الحُلم مسيره على ضوء ما زرعه أساتذتنا من رؤى ونصائح.
فالكيمياء التي رافقتنا في القاعات لم تكن مادة علمية فحسب، بل كانت مرآة لاكتشاف الذات، ومعبرًا لفهم العالم بعيون مختلفة.
من شهادات الدكاترة، ندرك أن ما يُبنى في الجامعة يتجاوز الحفظ، ليصير فهمًا وتطويرً ا، ومع اقتراب التخرّج، تتشكّل ملامح الطريق المقبل بثقةٍ وأمل.