اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
الذهب يلمع والفائدة تتراجع: الأثار على مكونات الاقتصاد
د. عدلي قندح
في خطوة تعكس مرونة السياسة النقدية الأردنية واستجابتها للمتغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية، قرر البنك المركزي الأردني خفض سعر الفائدة الرئيسي وأسعار أدواته النقدية الأخرى بمقدار 25 نقطة أساس اعتباراً من نوفمبر 2025. ورغم أن الخفض يبدو محدوداً في ظاهره، إلا أن تداعياته تمتد في عمق المشهد المالي والاقتصادي الأردني، مؤثرة في المقترضين والمودعين، وفي النشاط الاقتصادي والمالية العامة، وحتى في سلوك المدخرين الذين بدأ بعضهم يتجه نحو الذهب كملاذ آمن في ظل تراجع العوائد على الودائع.
البيئة الاقتصادية الحالية توفر أرضية مناسبة لهذا القرار؛ فمعدل التضخم في الأردن بقي ضمن نطاق مريح لا يتجاوز 1.8% حتى نهاية الربع الثالث من عام 2025، ما منح البنك المركزي هامش حركة أوسع للتيسير النقدي دون خشية من موجة تضخمية. في المقابل، ما تزال معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة بلغت 21.3% في الربع الثاني من العام، مع تباينات ملحوظة بين الجنسين، ما يعزز الحاجة إلى سياسات توسعية تحفز النمو وتخلق فرص عمل جديدة.
من حيث المؤشرات النقدية، بلغ حجم الودائع لدى الجهاز المصرفي نحو 48.8 مليار دينار، فيما وصلت التسهيلات الائتمانية إلى 35.7 مليار دينار حتى أغسطس 2025. هذه الأرقام تعكس قطاعاً مصرفياً يتمتع بالسيولة والقدرة على الإقراض، الأمر الذي يجعل من قرار خفض الفائدة فرصة لتوسيع النشاط الائتماني وتحريك الطلب على التمويل للأفراد والشركات، ولا سيما في قطاعات العقار، والتجارة، والصناعة، والسياحة، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي تُعدّ أكثر حساسية لتكلفة التمويل.
أما المقترضون، فسيرحبون بهذا القرار باعتباره تخفيفاً تدريجياً لأعباء القروض، إذ ستنخفض كلفة التمويل وفق دورية تعديل الفائدة في عقودهم، سواء كانت سنوية أو نصف سنوية أو ربع سنوية. في المقابل، فإن المودعين سيواجهون تراجعاً في العوائد على ودائعهم، ما قد يدفع بعضهم إلى البحث عن بدائل استثمارية أخرى — وعلى رأسها الذهب، الذي عاد إلى الواجهة كأداة ادخار آمنة بعد أن لامس في الأسواق العالمية مستويات قياسية قاربت 4000 دولار للأونصة في أكتوبر 2025. هذا التحول في سلوك المدخرين قد يؤثر جزئياً على وتيرة نمو الودائع المصرفية، وإن كانت الثقة بالقطاع المصرفي ستبقي على استقرار القاعدة الادخارية العامة.
من زاوية المالية العامة، يمثل خفض الفائدة عاملاً مزدوج الأثر. فمن جهة، هو يخفض كلفة خدمة الدين العام — التي تبلغ قيمته الإجمالية نحو 35.08 مليار دينار، أي ما يقارب 91.5%من الناتج المحلي الإجمالي — إذ إن أي انخفاض بمقدار 0.25% في الفائدة يعادل تقريباً توفيراً سنوياً يقارب 88 مليون دينار في مدفوعات الفائدة، بافتراض انتقال التخفيض إلى كامل محفظة الدين. ومن جهة أخرى، يمكن أن يؤدي هذا التيسير إلى تحفيز النشاط الاقتصادي، وبالتالي زيادة الإيرادات الضريبية وتقليص العجز المالي الذي بلغ نحو 1.26 مليار دينار بعد المنح خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025. لكن يبقى الأثر الفعلي تدريجياً ومحدوداً ما لم يترافق مع إصلاحات مالية هيكلية تعالج كفاءة الإنفاق وتوسّع القاعدة الضريبية.
اقتصادياً، قد لا يظهر أثر القرار النقدي سريعاً في مؤشرات النمو، إذ عادة ما تحتاج السياسة النقدية إلى 6 إلى 12 شهراً كي تُترجم إلى تحسّن ملموس في الناتج المحلي الإجمالي، المتوقع أن ينمو بنسبة تقارب 2.8% خلال عام 2025. ومع ذلك، يُتوقع أن تشهد القطاعات الإنتاجية، وخاصة العقار والصناعة التحويلية والسياحة والخدمات التجارية، تحسناً في التمويل والاستثمار خلال النصف الثاني من 2026، وهو ما قد يسهم في خفض تدريجي للبطالة وتحسين بيئة الأعمال.
أما القطاع المصرفي، فسيتأثر مؤقتاً بتراجع هامش الفائدة الصافي الذي يتراوح حالياً بين 3.5% و3.9%، إلا أن زيادة الإقبال على القروض الجديدة قد تعوض هذا الانخفاض، خصوصاً إذا رافق القرار توسع في الخدمات المصرفية الرقمية ومنتجات التمويل الموجهة نحو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
على صعيد آخر، يمثل الذهب مرآة غير مباشرة للسياسات النقدية. فمع انخفاض الفائدة محلياً وعالمياً، ترتفع جاذبية الذهب بوصفه مخزناً للقيمة، مما يجعل جزءاً من المدخرات الوطنية يتحول من الحسابات البنكية إلى الذهب المادي أو صناديق الاستثمار المرتبطة به. ورغم أن هذا لا يخلق قيمة إنتاجية مباشرة، فإنه يشير إلى ضرورة تنويع الأدوات الادخارية المحلية — كالسندات الادخارية وشهادات الإيداع المرنة — لتوفير بدائل آمنة للمستثمرين المحليين تحافظ على السيولة داخل النظام المالي.
إن خفض الفائدة، رغم تواضع حجمه، يمثل إشارة اقتصادية قوية إلى أن البنك المركزي يوازن بدقة بين استقرار الأسعار وتحفيز النمو.لكنه ليس عصاً سحرية؛ فنجاح أثره في تخفيف البطالة وتحسين المالية العامة يتطلب تكاملاً حقيقياً بين السياسة النقدية والسياسة المالية. المطلوب اليوم هو استخدام نافذة التيسير النقدي لإعادة توجيه الإنفاق العام نحو الاستثمار الإنتاجي، وتحسين بيئة الأعمال لجذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وتعزيز الائتمان الموجّه للقطاعات القادرة على خلق الوظائف.
وبينما تلمع أسعار الذهب في الأسواق العالمية، يظلّ التحدي أمام الاقتصاد الأردني هو تحويل بريق التيسير النقدي إلى طاقة إنتاجية حقيقية تُنعش النمو وتُخفف الأعباء عن المالية العامة وتعيد التوازن إلى سوق العمل. عندها فقط، يمكن القول إن قرار خفض الفائدة لم يكن مجرد تحرك نقدي فني، بل بداية دورة اقتصادية جديدة تتجه نحو استدامة النمو وجودة الحياة الاقتصادية في الأردن.












































