اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
المدافع الثقيلة على طاولة شرم الشيخ: خطة ترامب بين المراحل والتأجيل #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي
في منتجع شرم الشيخ المطلّ على خليجٍ هادئٍ يشبه الهدوء الذيظ يسبق العاصفة، اجتمعت الوفود من كل الاتجاهات تحمل خرائط ودفاتر شروط أكثر مما تحمل حلولًا. من واشنطن جاء مبعوثان مباشران من الرئيس الأميركي دونالد ترامب — جاريد كوشنر وستيف ويتكوف — ومعهما فريق أمني وإعلامي يسعى إلى تثبيت 'إرث سياسي” قبل أن يُطوى دفتر الولاية الثانية للرئيس الذي لا يملك دستورياً فرصةً ثالثة. ومن الدوحة حضر رئيس الوزراء القطري، ومن أنقرة رئيس الاستخبارات التركية، ومن القاهرة كبار رجال المخابرات العامة الذين يعرفون جيدًا أن كل هدنةٍ في غزة تبدأ من مصر وتنتهي عند حدودها.
لكن ما بدت عليه الجلسة ليس مفاوضات سلام، بل إدارة أزمة طويلة الأمد. الوجوه المتعبة والبيانات المتكرّرة أوحت بأن الهدف ليس إنهاء الحرب، بل تهذيبها؛ جعلها أقلّ صخبًا، أكثر قابلية للتسويق، دون أن تتغيّر طبيعتها أو موازينها.
خطة ترامب: تأجيلٌ مرحليّ بطابعٍ استعراضي
بحسب ما كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية، تدخل واشنطن المفاوضات بخطةٍ ثلاثية المراحل: وقف إطلاق نارٍ مؤقت، ثم صفقة لتبادل الرهائن والمساعدات الإنسانية، ثم مرحلة ثالثة تُترك للنقاش حول نزع السلاح وإعادة الإعمار وصيغة الحكم المحلي في غزة.
في ظاهرها خطة عملية، وفي جوهرها خطة تأجيلٍ منسّقة. فكل مرحلة تفتح الباب إلى أخرى بدل أن تُغلق ما قبلها، وهو ما يعكس منهجية أميركية مألوفة: 'تقدّم محدود قابل للتسويق” بدل 'حلّ نهائي محفوف بالمخاطر”.
ترامب لا يبحث عن سلامٍ شامل، بل عن مشهدٍ سياسي يليق بخاتمة حكمه. هو في ولايته الأخيرة، يسابق الزمن ليضع توقيعه على اتفاقٍ ما، حتى لو كان هشًا، ليقال لاحقًا إن 'إدارته أنهت حرب غزة”.
واشنطن: الصورة قبل المضمون
منذ بدء المحادثات في شرم الشيخ، قُتل أكثر من مئة فلسطيني في قصفٍ متواصل على رفح وخان يونس. الهدوء الذي يُعلن في القاعات لا يجد طريقه إلى الأرض، والضحايا يواصلون السقوط بوتيرةٍ شبه يومية.
ورغم إدراكها لذلك، تفضّل واشنطن إدارة المشهد الإعلامي على معالجة جوهر الأزمة. فمجرد اجتماع الأطراف حول طاولة واحدة يُقدَّم في الداخل الأميركي كنجاحٍ سياسي. الرأي العام الأميركي لا يتابع التفاصيل الميدانية، بل يتذكّر الصور الرمزية للإنجازات، وهي الصورة التي يسعى ترامب إلى تركها قبل مغادرته المشهد. إنها سياسة الصورة قبل المضمون — رئيس يعلن الهدنة لا رئيس يوقف الحرب.
إسرائيل: تفاوضٌ تحت الدخان
إسرائيل تتعامل مع المفاوضات كامتدادٍ للمعركة، لا كبديلٍ عنها. القصف مستمر، والعمليات الميدانية لم تتوقف، لكن الخطاب السياسي تغيّر: لم يعد الحديث عن 'الحسم”، بل عن 'الترتيب”. الحكومة الإسرائيلية، التي تواجه أزمة داخلية واحتجاجات من عائلات الأسرى، تبحث عن هدنة تكتيكية تمنح الجيش استراحةً وتمنح نتنياهو وقتًا سياسيًا.
الوفد الإسرائيلي حمل هدفًا واضحًا: تثبيت 'خط الانسحاب الأصفر” الذي أدرج في خريطة ترامب، والذي يُبقي نحو نصف قطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية تحت ذريعة الأمن المؤقت. بهذه الصيغة، لا تفاوض إسرائيل على إنهاء الحرب بل على إعادة تدويرها في مساحةٍ أصغر وأهدأ.
مصر وقطر وتركيا: وساطة الضرورة
القاهرة تمشي على خيطٍ رفيع؛ تخشى انفجار الوضع على حدودها، ولا تريد أن تُحمَّل مسؤولية الفشل. تدير الملف بصمتٍ نشط: تسمح بمرور المساعدات حينًا، وتغلق المعبر حينًا آخر، محافظةً على التوازن بين الأمن والسياسة. دورها لا يهدف لصنع اتفاق بل لمنع الانفجار.
الدوحة وأنقرة تسعيان للحفاظ على صورتهما كوسطاء مقبولين لدى جميع الأطراف، لكن المهمة شديدة التعقيد. فحماس، رغم ضعفها الميداني، لا تزال تملك أوراقها السياسية الأقوى: الرهائن من جهة، والمظلّة الإنسانية من جهة أخرى. قطر طالبت بضمانات مكتوبة تمنع استئناف الحرب بعد الهدنة، بينما تحاول تركيا العودة إلى الواجهة عبر بوابة الاستخبارات.
لكن في النهاية، الوساطة الإقليمية بلا أدوات إلزام، فيما تملك واشنطن وحدها مفاتيح الضغط والإقناع.
حماس والدم كأداة تفاوض
على الضفة الأخرى من الطاولة، تبدو حماس محاصَرة لكنها لم تُهزم سياسيًا. تدرك أن استمرار الحرب يستنزفها، لكنها ترى في أي هدنة دون انسحابٍ كامل استسلامًا مؤجلاً. لذلك تطرح معادلتها الجديدة: 'آخر رهينة مقابل آخر جندي.”
منذ بدء المحادثات، لم يتوقف القصف، بل تصاعد في الأيام التي شهدت ما سُمّي 'تقدّمًا في المفاوضات”، وكأن الدم أصبح جزءًا من التفاهمات. تقارير تؤكد أن الغارات طالت مناطق وُصفت بأنها 'ممرات آمنة”. بهذا التناقض، تتحوّل المفاوضات إلى مرآةٍ لحربٍ تُدار بالتوازي بين الميدان والقاعة، حيث تُرسم الخرائط بالمدفع مثلما تُرسم بالقلم.
ترامب في ولايته الأخيرة... يسابق الزمن لا الصناديق
ورغم أن ترامب لا يملك دستورياً حق الترشح مجددًا، إلا أن إدارته تتعامل مع الملف الفلسطيني بعقلية 'الوقت الضائع”. الغاية ليست انتخابية، بل صناعة إرثٍ رمزيّ يُقدَّم كدليل على أن واشنطن ما زالت تمسك بخيوط الشرق الأوسط.
لهذا يستعجل البيت الأبيض إعلان اتفاقٍ ولو جزئي، حتى وإن ظلّ القصف مستمرًا. فالصورة — بالنسبة لترامب — أهم من التفاصيل: صورة رئيسٍ يعلن وقف النار، ولو استمرّت المدافع تعمل بعد التصفيق.
شرم الشيخ… مفترق لا نهاية
بعد أسابيع من المحادثات، تبدو المدينة التي احتضنت كامب ديفيد قبل نصف قرن تعيش نسخةً معكوسة من التاريخ: يومها وُقّع السلام فوق جراحٍ قديمة، أما اليوم فالموت يتكاثر مع كل خطوةٍ نحو الاتفاق.
ما يجري في شرم الشيخ ليس بحثًا عن حلّ، بل عن صيغة تُبقي الجميع في اللعبة: واشنطن تبحث عن إنجاز رمزي، تل أبيب عن مخرجٍ آمن، القاهرة عن هدوءٍ حدودي، وحماس عن إثباتٍ بأنها ما زالت رقمًا صعبًا.
وفيما تتبادل الوفود أوراق الهدنة، تبقى غزة — رغم كل الكلام عن السلام — تستيقظ كل صباحٍ على صوت المدافع ذاتها.
---