اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
الملك عبدالله الثاني: حين يتحد الخطاب بين الإرث والرؤية والمستقبل #عاجل
في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين، قدّم الملك عبدالله الثاني خطابًا لا يمكن قراءته ككلماتٍ بروتوكولية أمام ممثلي الشعب فحسب، بل كوثيقة سياسية متكاملة تعيد تأكيد ثوابت الدولة الأردنية في مواجهة التحوّلات الإقليمية، وتجسّد توازنًا نادرًا بين الإصلاح الداخلي، والموقف الوطني، والدور العربي الهاشمي الذي لم يحد يومًا عن البوصلة الفلسطينية.
بين الحسينين… ذاكرة المجد واستمرارية الخدمة
حين ذكر الملك عبدالله الثاني ابنه وولي عهده الأمير الحسين، لم يكن الحديث عن 'جيلٍ جديد” بقدر ما كان تجسيدًا لمبدأ 'القيادة المستمرة في خدمة الشعب”. فالأمير الشاب، الذي أثبت حضوره في الميدان وفي المبادرات التنموية، أصبح رمزًا لروح الدولة المتجددة — دولةٍ لا تكتفي بالتاريخ، بل تكتبه من جديد بعرق أبنائها.
لقد أراد الملك من خلال الإشارة إلى ابنه أن يؤكد أن خدمة الأردنيين ليست شعارًا عابرًا، بل مدرسة متوارثة. مدرسةٌ أسّسها الملك الحسين بن طلال – طيب الله ثراه – حين جعل من القرب من الناس نهجًا، ومن الإصغاء إليهم واجبًا، ومن حبّهم إيمانًا. تلك الروح هي التي انتقلت إلى عبدالله الثاني، لتتجلى اليوم في جيلٍ ثالث يُكمل المسيرة بنفس الإصرار على أن يكون القائد خادمًا لشعبه لا متسلّطًا عليه.
الأمير الحسين اليوم ليس مجرد وليّ للعهد، بل وليّ للأمل، وامتدادٌ حيّ لصورة القائد الذي ينزل إلى الميدان، يشارك الجنود والطلبة والعمال، ويحمل همّ الشباب الأردني في التعليم والعمل والتكنولوجيا، لا من خلف المكاتب، بل من قلب الواقع. وهنا تتجلّى فلسفة الدولة التي أرادها الملك عبدالله الثاني: قيادة تعمل، لا تتكلم.
خطاب في لحظة مفصلية
جاء الخطاب الملكي في توقيت دقيق، ليس فقط لأنه يفتتح دورةً جديدة للبرلمان، بل لأنه يواكب مرحلة إقليمية يغلي فيها الشرق الأوسط على صفيحٍ من النار. فالأردن، المحاط بالأزمات، يواصل تقديم نموذجه في الثبات والاتزان. ومنذ اللحظة الأولى، ربط الملك عبدالله بين الإصلاح الداخلي والموقف القومي، في رسالةٍ واضحة بأن أمن الأردن السياسي والاقتصادي لا ينفصل عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
أكد الملك أن الأردن لا يقبل، ولن يقبل، أيّ مساسٍ بالضفة الغربية أو بالقدس، وأن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية ليست فقط مسؤولية دينية أو سياسية، بل التزامٌ تاريخي يمثل شرفًا للأردنيين جميعًا. فالهاشميون، من النبي العربي إلى الحسين الجدّ، حملوا الرسالة ولم يساوموا عليها، وها هو عبدالله الثاني يورثها لابنه الأمير الحسين بنفس الروح: أن تظل القدس في القلب مهما تبدلت المعادلات.
القضية الفلسطينية… البوصلة التي لا تنحرف
الحديث الملكي عن فلسطين لم يكن تكرارًا لموقفٍ تقليدي، بل تأكيدًا على أن الأردن يرى نفسه جزءًا من معركة الوعي قبل أن تكون معركة حدود. فقد أشار جلالته إلى أن ما يجري في غزة والضفة ليس شأنًا فلسطينيًا فقط، بل اختبارٌ للضمير العالمي. وبينما تسعى بعض القوى لتطبيع الجريمة وإعادة تعريف الاحتلال، يذكّر الأردن العالم بأن الحق لا يُجزّأ، وأن الكرامة لا تقبل المقايضة.
لقد وضع الملك عبدالله الثاني العالم أمام مرآةٍ أخلاقية: إمّا أن تكون إنسانيًا فتقف مع الشعب الفلسطيني، أو أن تكون شاهد زورٍ على جرائم القرن. وفي هذا المعنى، أعاد الخطاب ترسيخ الدور الأردني كصوتٍ عربيٍ متوازنٍ لكنه لا يساوم، صوتٍ يرفض الخضوع لكنه لا يجنح للمغامرة، ويؤمن أن الدفاع عن فلسطين هو دفاعٌ عن هوية الأردن نفسه.
الإصلاح من الداخل… رؤية لا تتوقف
في الشق الداخلي من الخطاب، قدّم الملك قراءة شاملة لأولويات الدولة في المرحلة المقبلة: استكمال التحديث السياسي، وتفعيل الحياة الحزبية، وتسريع تنفيذ «رؤية التحديث الاقتصادي». لكنه أضاف بعدًا أخلاقيًا نادرًا حين قال إن الأردن قوي بشعبه، وإنه قد يشعر بالقلق لكنه لا يخشى إلا الله، لأنه يستمد العزم من الأردنيين.
هذه العبارة كانت كفيلة بأن تُعيد الثقة بين الحاكم والمحكوم، لأنها تنبع من قناعةٍ روحية عميقة بأن الشعب هو مصدر الشرعية، والكرامة هي أساس الحكم. فالإصلاح عند الملك عبدالله ليس رفاهًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لدولةٍ صغيرة في حجمها، كبيرة في رسالتها.
ومن اللافت أن الخطاب لم يقتصر على التنظير، بل حمل نبرة عملية واضحة، حين دعا الحكومة ومجلس النواب إلى 'تحويل الرؤية إلى واقع”، مؤكداً أن الوقت ليس للجدل، بل للعمل. وهنا يظهر الفارق بين الخطاب الملكي والخطاب التقليدي: الأول يُطلق رؤيةً تتكامل فيها السياسة مع الاقتصاد، والثاني يكتفي بالشعارات.
الأردن بين الإقليم والعالم
لم يغب البعد الدولي عن خطاب الملك. فقد حرص على تذكير المجتمع الدولي بأن الأردن كان وسيبقى لاعبًا مسؤولًا في حفظ الاستقرار الإقليمي، وأن دعم الأردن ليس منّةً من أحد، بل استثمارٌ في أمن المنطقة والعالم. فالدولة التي تستضيف اللاجئين، وتمنع التطرّف، وتحافظ على حدودٍ مشتعلة من دون أن تسقط في الفوضى، هي دولةٌ تستحق الدعم لا المواعظ.
وهنا، يبرز الدور الذي لعبه الملك عبدالله في جعل الأردن مركزًا للحوار لا للحروب، وصوتًا للعقل في زمنٍ صاخب. ومع ذلك، لم يخفِ الخطاب شعور القلق من محاولات العبث الإقليمي، خصوصًا في فلسطين ولبنان وسوريا، حيث دعا إلى حلولٍ قائمة على العدالة لا على توازنات القوة وحدها.
من الحسين الكبير إلى الحسين الشاب… الدولة التي لا تشيخ
حين نقرأ الخطاب من زاوية رمزية، نجد أنه حلقة جديدة في السلسلة الهاشمية التي تربط بين ثلاثة أجيال: الحسين الأب، وعبدالله الابن، والحسين الحفيد. تلك السلسلة التي جعلت من العرش الأردني مشروعًا وطنيًا لا شخصيًا، ومن القيادة تكليفًا لا تشريفًا. فالحسين بن طلال بنى الأردن على قاعدة 'الإنسان أولاً”، وعبدالله الثاني ثبّت هذه القاعدة في أصعب ظروف الإقليم، وها هو الأمير الحسين يعيدها إلى لغة الشباب والتكنولوجيا والابتكار.
ما يجري ليس انتقالًا في الحكم فحسب، بل تطورٌ في فلسفة القيادة: من 'الزعيم الملهم” إلى 'القائد الشريك”، ومن الدولة التي تحمي الشعب إلى الدولة التي يعمل فيها الشعب لحماية مستقبله. ولعل هذا ما قصده الملك حين شدد على أن الأردن قوي بمؤسساته وبوعي شعبه، وأن 'العزيمة بالله أولًا، ثم بالأردنيين”.
الرسالة إلى الداخل والخارج
في نهاية الخطاب، بدا الملك عبدالله الثاني وكأنه يخاطب الأردنيين والعالم في آنٍ واحد: يقول للداخل 'أنا معكم وبكم”، ويقول للخارج 'الأردن ليس ساحةً للضغط، بل منصةٌ للسلام والكرامة”.
هذه الرسالة، المضمّخة بروح الحسين الكبير ودماثة عبدالله الثاني ونشاط ولي عهده الحسين، أعادت إلى الأردنيين شعور الفخر بأنهم ليسوا على هامش التاريخ، بل في صلبه.
خطاب الملك عبدالله الثاني اليوم كان أكثر من خطابٍ سياسي، بل وثيقة وطنية تنبض بالعزيمة والطمأنينة، تضع المواطن في قلب القرار، وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها في الضمير العالمي.
وحين يذكر جلالته ابنه ووالده في الخط نفسه، فإنه لا يقدّم سيرة عائلية، بل يروي قصة دولةٍ وُلدت من رحم الصعاب، وستبقى، بإذن الله، كما أرادها الحسين: قوية بشعبها، ثابتة على حقها، ووفية لقضيتها الأولى – فلسطين.







 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 










































 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 