اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٠ حزيران ٢٠٢٥
مادلين ومأساة مرمرة: حين تُبحر إسرائيل فوق القانون ويسكت العالم #عاجل
كتب - كابتن أسامة شقمان
في مساء يوم الإثنين، وصلت السفينة 'مادلين' إلى ميناء أسدود الإسرائيلي، بعد أن اعترضتها البحرية الإسرائيلية في طريقها إلى قطاع غزة، في محاولة رمزية وشجاعة لكسر الحصار الخانق المفروض على أكثر من مليوني إنسان. لم يكن في السفينة أسلحة ولا تهديدات، بل مساعدات إنسانية وقلوب تحاول أن تقول: 'لسنا صامتين'. لكن إسرائيل كانت، كعادتها، حاضرة بقوة النار والردع لا بالقانون.
تُعيد هذه الحادثة إلى الأذهان مأساة سفينة 'مافي مرمرة'، حين اقتحمت قوات الاحتلال سفينة تركية في عرض البحر عام 2010، وقتلت عشرة نشطاء في واحدة من أكثر الجرائم وقاحة في المياه الدولية. حينها اهتز العالم لبعض الوقت، ثم عاد إلى صمته المتواطئ. أما اليوم، فحتى الاهتزاز لم يعد موجوداً، وكأننا بتنا نعيش في عصر ما بعد القانون، حيث تمارس إسرائيل سلطتها فوق المواثيق، بدعم من صمت دولي مدوٍّ.
قطاع غزة ليس فقط جغرافيا محاصَرة، بل هو امتحان أخلاقي فشلت فيه البشرية مراراً. الحصار المفروض منذ أكثر من 17 عاماً، ليس عقابًا جماعيًا كما يصنّفه القانون الدولي فقط، بل هو آلية خنق منظم تُمارس على مرأى ومسمع العالم. ورغم توالي التقارير الأممية، ومواقف بعض المنظمات الحقوقية، لا أحد يملك الجرأة على إيقاف هذا العبث.
لماذا إذن تصر إسرائيل على اعتراض سفن صغيرة لا تهدد أمنها؟ الجواب بسيط: لأنها تستطيع. ولأن العالم يتيح لها ذلك، بلا محاسبة أو ضغط حقيقي.
في 31 أيار/مايو 2010، كانت سفينة 'مافي مرمرة' ضمن 'أسطول الحرية' متجهة إلى غزة لكسر الحصار. في عرض البحر، وبشكل مخالف لكل قوانين الملاحة الدولية، اقتحمتها القوات الإسرائيلية وقتلت عشرة نشطاء. كانت تلك لحظة كاشفة: إسرائيل قادرة على قتل نشطاء مدنيين في المياه الدولية دون مساءلة، تمامًا كما تفعل في البر والجو.
أُدينت العملية دوليًا في حينه، وخرجت مظاهرات غاضبة في إسطنبول والعالم، وصدرت تقارير أممية تدين السلوك الإسرائيلي، لكن لا عقوبات، لا محاكم، لا رادع. وهكذا، ترسّخ مبدأ أن إسرائيل فوق القانون.
السؤال الصعب: لماذا لا يتحرك 'العالم الحر'؟
الجواب المحزن: لأن 'الحرية' أصبحت مفهوماً انتقائياً، تُفعّل فقط حين تخدم مصالح محددة.
حرية الملاحة؟ مبدأ مقدّس… إلا إذا كانت السفينة متجهة إلى غزة.
حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ شعار جميل… إلا إن كان الشعب فلسطينيًا.
حقوق الإنسان؟ حزمة من المعايير… إلا حين تنتهكها إسرائيل.
إن السكوت الدولي المتواصل، خاصة من الدول التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس مجرد تقاعس، بل مشاركة ضمنية في الجريمة. الصمت شراكة، وغضّ البصر تواطؤ.
إن السلوك الإسرائيلي يعيد تعريف العلاقة بين القانون والقوة. فبدلاً من أن يكون القانون إطارًا يحدّ من السلطة، صار في الحالة الإسرائيلية أداة تُطوَّع لتبرير القوة. تعتدي، ثم تكتب رواية قانونية، ثم تسوّقها عبر آلة دبلوماسية ضخمة، ثم تتكئ على حائط الصمت الغربي.
لكن ما لا يُدركه صناع السياسة في تل أبيب، أن هذا النموذج ليس قابلًا للاستمرار، ولا يمكن تعميمه دون أن تنكسر القيم التي يقوم عليها النظام الدولي برمّته. فإن سقط القانون في غزة، فسيسقط في كل مكان، وتتحول البحار والحدود والموانئ إلى غابة مفتوحة لقانون الغلبة.
كلمة أخيرة: السفينة 'مادلين' ليست مجرد قارب صغير، بل رمز لضمير العالم الذي ما زال يحاول أن يتحرك. و'مرمرة' ليست جريمة طُويت، بل جرح مفتوح في ذاكرة الإنسانية. وغزة ليست مجرد جغرافيا منكوبة، بل بند حاسم في امتحان العدالة الدولية.
إن استمرار الحصار، واعتراض السفن، وقتل المدنيين، وتواطؤ الصمت، هي إشارات واضحة إلى أن ما نراه ليس صراعًا بين طرفين، بل مواجهة بين من يؤمن بأن الإنسان يستحق الحياة، ومن يراه مجرد رقم في معادلة أمنية.
وحتى تُكسر هذه المعادلة، ستظل كل سفينة تتجه إلى غزة تحمل رسالة واحدة: لسنا أحراراً ما دام في العالم من يُمنَع من الحياة تحت الشمس والبحر والسماء.
.