الدولار مقابل اليورو

في عالم تتغير فيه موازين القوى الاقتصادية باستمرار، تمثّل العلاقة بين الدولار الأمريكي واليورو أكثر من مجرد سعر صرف عائم؛ إنها مؤشّر عميق على مراكز النفوذ المالي في العالم. خلال العام الماضي، تراجع الدولار بنسبة 4.7% أمام اليورو، ليسجل في مايو 2025 سعر 1 دولار = 0.878 يورو، مقارنة بـ 0.921 يورو في الفترة نفسها من 2024. هذا التراجع يعكس تحولات مركبة في السياسة النقدية، والميزان التجاري، وثقة المستثمرين.

في بداية 2024، استفاد الدولار من سياسة التشديد النقدي للفيدرالي الأمريكي، حيث بلغت أسعار الفائدة 5.5%، وهي الأعلى منذ 2001. هذه السياسة جذبت استثمارات ضخمة في السندات الأمريكية، مما ساهم في ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة إلى 374 مليار دولار بنهاية 2024، وهو من أعلى المعدلات في دول الـ G7. كما حافظ الدولار على مكانته كأكبر عملة احتياطي عالمي، بنسبة 58.4% من الاحتياطي العالمي، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.

لكن مع تزايد المخاوف من الركود، خصوصًا بعد انخفاض الناتج الصناعي الأمريكي بنسبة 1.8% في الربع الأخير من 2024، بدأت الضغوط تتراكم على الدولار. كما بلغ الدين العام الأمريكي سقفًا تاريخيًا تجاوز 34.9 تريليون دولار، ما أثار قلق الأسواق من استدامة النمو، وأضعف ثقة المستثمرين بالعملة الأمريكية على المدى المتوسط.

على الضفة الأخرى، بدأ البنك المركزي الأوروبي (ECB) في رفع الفائدة بوتيرة مدروسة لتصل إلى 4.25%، مما ساعد على تقوية اليورو تدريجيًا. وقد شهد ميزان الحساب الجاري الأوروبي تحسنًا ملحوظًا، من عجز قدره 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 إلى فائض 1.1% في 2024، مدعومًا بانخفاض واردات الطاقة بنسبة 18%، وارتفاع صادرات ألمانيا بنسبة 5.6%، فضلًا عن زيادة عائدات السياحة في دول الجنوب الأوروبي بنسبة وصلت إلى 12% في إيطاليا.

كما بدأت الاستثمارات في دول الاتحاد الأوروبي بالانتعاش، حيث ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 8.3% مقارنة بعام 2023، مدعومًا بإعادة توطين سلاسل التوريد، وبتوسع الشركات الأوروبية في مجالات التكنولوجيا والطاقة الخضراء. كل ذلك يعزز مكانة اليورو كعملة استقرار، ويمنحه جاذبية جديدة أمام المستثمرين الباحثين عن بدائل أكثر تنوعًا.

في المقارنة، تبقى الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر بناتج محلي إجمالي 26.9 تريليون دولار، مقابل 17.1 تريليون دولار لمنطقة اليورو. لكن النمو في أمريكا تباطأ إلى 1.6% في 2024، بينما بدأت أوروبا تُظهر مؤشرات انتعاش، بنمو متوسط بلغ 1.8% بقيادة ألمانيا وفرنسا. هذه الفجوة في وتيرة النمو هي أحد العوامل التي غيّرت اتجاه حركة رؤوس الأموال العالمية مؤخرًا.

وفي خضم هذا التوازن الجديد، يبرز الأردن كلاعب صغير بحسابات الاقتصاد العالمي، لكنه يتموضع بذكاء على خطوط التماس بين الأسواق. فمع تراجع الدولار وارتفاع اليورو، يجد الأردن فرصة لإعادة هيكلة تجارته الخارجية، خصوصًا مع الكتلة الأوروبية التي تمثل ثاني أكبر شريك تجاري له. كما أن تحسّن الميزان التجاري الأوروبي يفتح بابًا أوسع أمام الصادرات الأردنية، لا سيما في قطاعات الفوسفات، الأدوية، والملابس، التي تستفيد من قوة اليورو وارتفاع القوة الشرائية الأوروبية.

من جهة أخرى، فإن انخفاض الدولار نسبيًا قد يخفّف من تكلفة خدمة الدين الخارجي المقوّم بالدولار، والذي يمثل أكثر من 50% من إجمالي الدين الخارجي الأردني، مما يمنح المالية العامة متنفسًا مؤقتًا. في المقابل، تبقى الواردات الأردنية المرتبطة بالدولار، مثل النفط والحبوب، عرضة للتقلب، وهو ما يستدعي سياسة نقدية ومالية مرنة، تحفظ التوازن دون المساس بثقة المستثمرين.

أخيرًا، في نظام عالمي يتجه نحو التعددية، لا تُقاس قيمة العملة فقط بقوتها الشرائية، بل بمرونة مؤسساتها، وتماسك رؤيتها الاقتصادية، وثقة الأسواق في استقرارها. الدولار، رغم تاريخه القوي، بات يواجه ضغوطًا هيكلية، بينما يسعى اليورو لتجديد صورته كعملة توازن واستقرار في عالم متغير. وبين هذين القطبين، تتحدد ملامح نظام نقدي عالمي جديد، يفتح فرصًا ذكية حتى للدول الصغيرة التي تُحسن قراءة المشهد بدقة.