اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
واحة غزة… حين يتحوّل الدمار إلى مشروع سياحي
زياد فرحان المجالي
في صباحٍ غريبٍ من ذاكرة الحروب، وبين الركام الذي ما زال دافئًا من أنين القصف، خرجت من تل أبيب وثيقة تتحدث عن 'واحة غزة” — مشروع سياحي ضخم يحلم أصحابه بأن يُحوّل أرض الدمار إلى جزيرة استجمام على شاطئ المتوسط.
تبدو الفكرة للوهلة الأولى كأنها خيال اقتصادي وسط جحيم إنساني، لكنها في الحسابات الإسرائيلية ليست كذلك.
فهي امتداد لفلسفةٍ قديمة: تحويل المأساة الفلسطينية إلى فرصة، والركام إلى عقارٍ استثماري، والمأوى المهدوم إلى منتجعٍ فاخرٍ يطلّ على البحر.
من يقرأ تفاصيل المشروع، يكتشف أنه ليس مجرّد خطة اقتصادية، بل رؤية سياسية مموّهة بلغة المال.
خطةٌ تتحدث عن إدارةٍ دولية مؤقتة، وشركات خليجية وأميركية تدخل السوق الغزّية لإعمارٍ مشروطٍ بالإشراف الأمني الإسرائيلي، لتُفتح بعد ذلك أمام المستثمرين من تل أبيب.
الوثيقة تصف غزة بأنها 'كنزٌ غير مستغلّ”، وتقدّمها كمنطقةٍ قادرة على أن تصبح 'أيقونة سلام” إذا تمّ 'تحييد حماس كليًا”.
بهذا المنطق البارد، تُختصر الجغرافيا إلى صفقة، وتتحوّل دماء الأطفال إلى مساحةٍ للإعلان التجاري.
لكن خلف هذا الخطاب الناعم، يكمن جوهرٌ أخطر:
فالمشروع يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الاحتلال والأرض، من الهيمنة العسكرية إلى السيطرة الاقتصادية.
إسرائيل التي فشلت في كسر المقاومة ميدانيًا، تُحاول أن تربح الحرب من بوابة الإعمار.
إنها إعادة إنتاج لمشروع 'السلام الاقتصادي” الذي تحدّث عنه نتنياهو مرارًا: غزة بلا سلاح، بلا ذاكرة، بلا مقاومة، مقابل فنادق ومنتجعات وامتيازات عمل.
بهذا الشكل، يتحوّل الاحتلال إلى مقاولٍ كبير، والضحايا إلى عمّالٍ في ورشةٍ تُبنى على أنقاض بيوتهم.
من زاويةٍ أخرى، يُمكن قراءة هذا المشروع كاختبارٍ لمرحلة 'ما بعد الردع”.
فبعد عامين من الحرب، لم تعد إسرائيل تبحث عن نصرٍ عسكري، بل عن سرديةٍ تُخفي العجز.
ومشروع 'واحة غزة” يأتي ليقول للعالم: 'انظروا، نحن لا ندمّر… نحن نبني”.
إنه تسويقٌ سياسيٌّ متقن لاحتلالٍ مستمرّ، لكن بوجهٍ إنسانيٍّ زائف.
تمامًا كما كان شعار 'غزة المفتوحة” بعد انسحاب 2005، حين تحوّل الحصار إلى نظامٍ إداريٍّ واقتصاديٍّ مغلق يخدم الأمن الإسرائيلي في المقام الأول.
المفارقة أن الوثيقة تتحدث عن إشراف دوليٍّ مشترك، يشمل واشنطن وبعض العواصم الخليجية، ما يعني أن المشروع ليس حلمًا محليًا، بل حلقةً في 'خطة ترامب 2025” التي تُعيد رسم ملامح ما تبقّى من القطاع.
الفكرة تقوم على معادلة بسيطة:
أمن لإسرائيل مقابل إعمارٍ مشروطٍ لغزة، وسلامٌ مزيّف يبرّر استمرار السيطرة.
بهذا المعنى، 'الواحة” ليست جغرافيا جديدة، بل نموذج لسياسة التطبيع الاقتصادي مع الاحتلال في ثوبٍ إنساني.
غير أنّ ما يُفشل مثل هذه المشاريع دائمًا هو الإنسان الفلسطيني نفسه.
ذلك الذي لا يُقاس بمعادلات الاستثمار، ولا يُباع في سوق الامتيازات.
فغزة التي خرجت من تحت الرماد لتعيد بناء نفسها آلاف المرّات، لن تقبل أن تكون مجرّد ديكورٍ في فيلمٍ عن 'السلام”.
الذين يعودون اليوم إلى شوارعها المهدّمة لا يحملون رؤوس أموال، بل يحملون قلوبًا من فولاذ وإصرارًا على البقاء.
هم يعرفون أنّ 'الواحة” الحقيقية ليست التي تُرسم في المكاتب الإسرائيلية، بل التي تنبت من صمودهم في وجه الموت.
سيحاولون مجددًا أن يُحوّلوا الألم إلى سلعة، وأن يبيعوا للناس 'غزة جديدة” بلا ذاكرة، لكن التاريخ علّمنا أن هذه المدينة لا تُشترى.
كل حجرٍ فيها يروي قصةً من دمٍ وماءٍ وعرق، وكل موجةٍ على شاطئها تعرف أسماء الشهداء أكثر مما تعرف أسماء المستثمرين.
إنهم يريدون 'غزة السياحية”، لكن غزة التي في القلوب ستبقى حصنًا من الوعي لا تقدر عليه الجرافات ولا الفنادق.
وهنا، تتضح المفارقة الكبرى:
حين يتحدث الاحتلال عن الإعمار، فهو في الحقيقة يُخفي فشل الردع.
وحين يعد بمشاريع التنمية، فهو يحاول أن يغطّي على غياب النصر.
لهذا تبقى 'واحة غزة” — بكل ما فيها من ألوان وتصاميم واستثمارات — مجرّد ستارٍ يحجب حقيقة واحدة:
أنّ الاحتلال لم يعد يملك سوى أدوات التجميل لتغطية وجهه الحقيقي.
فغزة ليست مشروعًا اقتصاديًا، بل ضميرًا عربيًا مفتوحًا على العالم.
وحين يكتشف المستثمرون أن هذا الضمير لا يُشترى، سيكتشفون أن الرمل الذي يريدون بناء فنادقهم عليه، ما زال دافئًا من دم الذين رفضوا أن يبيعوا وطنهم بالمتر المربع.
---












































