اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣١ أيار ٢٠٢٥
هل انتهى تضامننا مع غزّة؟! #عاجل
كتب: كمال ميرزا
للأسبوع الثالث على التوالي شهد الأردن عودةً لمظاهر التضامن الشعبيّة مع الأهل في غزّة عبر مسيرة جماهيريّة 'وسط البلد'!
هذه العودة اتخذت منحىً تصاعديّاً من حيث الزخم وأعداد المشاركين، وإن لم ترتق بعد للوضع السابق.
مجرد عودة مثل هذه المظاهر هو 'عَوْدٌ أحمد'، وكما يُقال: 'قليل دائم خيرٌ من كثير منقطع'!
السلطات كانت قد استغلت قضية خلية تصنيع الأسلحة التي تمّ الكشف عنها قبل حوالي شهر ونصف لتُرسي رابطاً عجائبيّاً غريباً على طريقة هاااااااي أذني من أجل منع مثل هذه المسيرات وما شابهها من مظاهر تضامنيّة!
ألا يكفي أنّ المسيرات هي بحدّ ذاتها مظهر محزن للتضامن بكونها تمثّل الحدّ الأدنى لما هو مُتوقّع ومأمول، وهي إنْ أتتْ فإنّما تأتي من قبيل ذرّ الرماد في العيون، أو 'التنفيس'، أو محاولة إقناع أنفسنا كمجتمعات وشعوب أنّنا ما نزال نمتلك شيئاً من الروح والضمير وماء الوجه.. حتى تحاول السلطات منع هذه المظاهر وحظرها على خجلها واستحيائها؟!
التضامن مع غزّة هو من حيث المبدأ لسان حال عموم الأردنيّين، وهو بالنسبة للغالبيّة دفاع عن الأردن قبل أن يكون دفاعاً عن فلسطين، وذلك ضدّ أطماع العدو الصهيونيّ المُعلنة، وضدّ الخطر الذي يمثّله هو وأعوانه والمتماهين معه والمرتبطين به مصالحيّاً على كيان الدولة الأردنيّة وأمنها واستقرارها.
كما أنّ التضامن مع غزّة ليس حكراً على أطراف دون غيرها، أو 'طابو' مسجّل باسم جهة بذاتها، والحديث هنا طبعاً عن 'جماعة الإخوان المسلمين'، بحيث تتخذ السلطات حالة الصدام والعداء (المُضخّمة بدورها) مع 'الحركة' ذريعة لمنع مظاهر التضامن وحظرها على الجميع!
عصفور آخر يتمّ ضربه بقصد أو دون قصد من خلال منع المسيرات والمظاهر التضامنيّة وهو خفض سقف التوقّعات؛ فعندما يصبح أقصى طموحنا هو السماح بوقفة تضامنيّة هنا ومسيرة تضامنيّة هناك (وإطلاق سراح المعتقلين)، سننسى شيئاً فشيئاً أنّ سقف مطالبنا وتوقّعاتنا الشعبيّة كان من حيث الأساس يتمحور حول قطع كافّة العلاقات وأوجه التبادل مع الكيان الصهيونيّ، وإلغاء جميع المعاهدات والاتفاقيّات الموقّعة معه (أو على الأقل تجميدها حتى إشعار آخر)، والاعتراف بفصائل المقاومة الفلسطينيّة رسميّاً كحركات تحرّر وطنيّ مشروعة، وتفعيل العمل بالخدمة الإلزاميّة/ خدمة العَلَم، وإذا اقتضت الضرورة إعلان التعبئة العامّة والنفير العام، وإحياء 'التضامن العربيّ' و'الدفاع العربيّ المشترك' و'الجبهة العربيّة الموحّدة'.
إلى هنا وقد يجادل البعض أنّ السماح بتنظيم الوقفات والمسيرات في مثل هذا الظروف الأمنيّة الحسّاسة قد يعطي فرصة لـ 'المندسّين' و'ضعاف النفوس' لاستغلال مثل هذه الحشود والتجمّعات، وهي حُجّة من الصعب الردّ عليها أو دحضها، ليس لوجاهتها، ولكن بكونها في العادة تأتي مشفوعة بمزاودة المُزاوديين وتجييش المُجيّيشين من كتّاب التدخل السريع والذباب الإلكترونيّ.
يعزّز من ذلك أنّك تشعر أحياناً أنّنا كمجتمع وكفعاليّات شعبيّة يروق لنا هذا الحظر، بل ونريده في دواخلنا بطريقة مضمرة وإن أظهرنا خلاف ذلك، بكونه يمنحنا الحجّة والذريعة لنفاق أنفسنا، والتحلّل من عبء التضامن ومسؤوليته على طريقة الذي ذهب للصلاة في الجامع، فوجد الجامع مغلقاً، فقال: 'إجت منك يا جامع'!
ما هو الحل في ضوء هذه الحال، و'المعادلة الصفريّة' التي تصرّ جميع الأطراف على التعاطي بموجبها مع مسألة التضامن مع غزّة، أو صيغة 'يا طخه يا اكسر مخّه' إذا جاز التعبير؟!
الحلّ ببساطة هو: 'لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم'، أو بلغة عشّاق التحديث والتطوير والريادة وتحويل التحدّيات إلى فرص: التفكير خارج الصندوق!
هناك الكثير من الطرق اليوميّة لإبداء التضامن والتعبير عنه دون الحاجة إلى التجمّع والاحتشاد الذين تكرههما السلطات وتتخذهما حجّة وذريعة.
على سبيل المثال، سبق للأردنيّين وأنّ عبّروا عن تضامنهم مع غزّة عندما أقدم العدو الصهيونيّ في إحدى المرّات على قطع الكهرباء عنها من خلال الإطفاء الجماعيّ للأنوار في توقيت محدّد، والبقاء في الظلام أو على ضوء الشموع لمدة ساعة كاملة.. فلماذا لا يتمّ إحياء مثل هذا المظهر؟!
ونحن الآن في أجواء الحجّ، فلماذا لا يتفق الأردنيون على ساعة محددة (ولتكن ساعة إطفاء الأضواء نفسها)، يقفون فيها على نوافذهم، أو يخرجون إلى شرفاتهم، أو يعتلون أسطحهم، ويلبّون بصوت خاشع بعيداً عن الزعيق والصياح لمدة معيّنة من الزمن، أو عدداً معيّناً من التلبيات: ((لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والمُلْك.. لا شريك لك))..
وبحلول العيد يستمر التقليد اليوميّ ولكن بترديد تكبيرات العيد بصيغتها الكاملة، أو مقطع معيّن منها: ((.. لا إله إلّا الله وحده.. صدق وعده.. ونصر عبده.. وأعزّ جنده.. وهزم الأحزاب وحده.. لا شيء قبله ولا شيء بعده.. لا إله إلّا الله.. ولا نعبد إلّا إياه.. مخلصين له الدين ولو كره الكافرون))..
مثل هذه الطقوس لا تُغلق شارعاً، ولا تُقلق راحةً، ولا يمكن أن تعتبرها السلطات ـ لا سمح الله ـ تحدّياً لها، أو تشكيكاً بها، أو انتقاداً لمواقفها، أو انتقاصاً من 'جهدها الإغاثيّ' و'جهادها الدبلوماسيّ'.. إلّا إذا اعتبرت السلطات أنّ دين الله بتعاليمه وشعائره يدينها وموجّه ضدّها!
وبعد انقضاء العيد يستمر هذا المظهر للتضامن من خلال ترديد دعاء بعينه يتمّ الاتفاق عليه، 'دعاء المستضعفين' مثلاً، ومن ثمّ الدعاء بالتثبيت والتأييد والنصر لغزّة وأهلها، والهلاك والثبور والذلّ لكلّ من خذلها وخانها وتواطأ ضدّها وظاهر عليها!
أو لماذا لا يتفق الأردنيّون على صيام كلّ اثنين وخميس تضامناً مع أهل غزّة ضدّ سلاح التجويع والتعطيش الذي يستخدمه العدو الصهيو-أمريكيّ بطريقة مُمنهجة، وتناول وجبة متقشّفة عند الفطور.. بحيث يصبح التضامن عبادةً والعبادة تضامناً في آن واحد!
جميع الأفكار أعلاه هي مجرد مقترحات مبدئيّة قابلة للتعديل والإضافة والاجتهاد الجماعيّ والإبداع الفرديّ.
قد يأتي أحدهم ويقول على طريقة حقّ أُريد به باطل: وما حاجة أهل غزّة بمظاهر التضامن هذه؟ وبماذا تفيدهم وسط كلّ هذا القتل والدمار والتشريد والتجويع والتعطيش؟!
والحقيقة أنّ أهل غزّة ليسوا بحاجة لهذا الشكل من التضامن الذي لايُقدّم ولا يؤخّر.. ولكن نحن الذين نحتاجه!
إذا كنّا كشعوب عاجزين عن إملاء إرادتنا الشعبيّة على ولاة أمرنا وصنّاع قرارنا، وعاجزين عن أنّ نهبّ لنصرة إخواننا في غزّة بالطريقة التي نؤمن في قرارة أنفسنا أنّها ما ينبغي أن تكون عليه النُصرة، وعاجزين عن حسم أصغر المعارك اليوميّة التي نخوضها بحكم نمط العيش الذي يقهرنا ولكنّنا نتشبث به بأظافرنا وأسنانا..
إذا كنّا عاجزين عن ذلك كلّه، فإنّ التضامن مع غزّة في حدّه الأدنى سيذكّرنا بأننّا بشر ولو بالحدّ الأدنى، وسيساعدنا مرّة أخرى في إقناع أنفسنا كمجتمعات وشعوب أنّنا ما نزال نمتلك شيئاً من الروح والضمير وماء الوجه!
والأهم، أنّ هذا التضامن قد يغرس بذرة ما، أو ينقل رسالة ما، أو يرسّخ معنى ما، أو يقدّم نموذجاً أو أسوةً ما.. لأطفالنا ويافعينا، تُبقى جمرة الإنسانيّة والمروءة والانتماء وأخوة الدم والدين حيّة داخلهم، حتى وإن غطتها أكوام من رماد الغزو والمسخ الثقافيّين، والتطبيع، والتسييل، وتخنيث المناهج، وتعهير النظامين التربويّ والإعلاميّ والفضاء التواصليّ!
والمؤسف أنّ الكلام أعلاه يأتي متزامناً مع الانحسار النسبيّ في التزام الناس بسلاح 'المقاطعة'، وكأنّ المقاطعة 'ترند' وانقضى وليست إعادة تربية للنفس وأسلوب للعيش، وكأنّ شهوة الناس لساندويشة بعينها أو مياه غازيّة بعينها أو علامة تجاريّة بعينها تفوق إحساسهم بالتضامن ووحدة الحال والوجع والمُصاب مع أهل غزّة.
كما يتزامن الكلام أعلاه مع معاودة الناس استمراء مشاركة يوميّاتهم وتفاصيل حياتهم عبر الفضاء التواصليّ: مأكل، مشرب، ملبس، أفراح، أوقات فراغ، تسلية وهوايات، سياحة ومغامرات، أغاني، موسيقى، إنجازات فرديّة، نجاحات وظيفيّة.. الخ، دون أدنى إحساس بالخجل من أهل غزّة (والضفّة) ومعاناتهم وحرمانهم من أبسط المقوّمات وأتفه الاحتياجات!
ويتزامن مع معاودة الجهات الرسميّة والخاصة تنظيم مختلف أنواع الفعاليات والاحتفالات والمهرجانات، والمبالغة في إخراجها وإبرازها كمّا ونوعاً، بصورة توحي أنّ القائمين على مثل هذه الفعاليات والمشاركين فيها والمُقبلين عليها قد بلغوا مرتبة من 'الكلاحة' وتلبّد الإحساس تفوق بأضعاف مضاعفة ما كانوا عليه قبل انطلاق 'طوفان الأقصى'!
بعد (600) يوماً من حرب الإبادة والتهجير، ومن الصمود الأسطوريّ والبطولات الأسطوريّة، نحن الذين نحتاج إلى التضامن مع غزّة وليست هي التي تحتاج إلى تضامننا، لأنّ هذا التضامن هو الشعرة الأخيرة المتبقيّة التي تفصلنا أفراداً وجماعات وأنظمةً عن السقوط التام في 'الخنزرة' وعالم الحيوان وشريعة الغاب!