اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
رم - مدخل: دَهشةُ المُراقبة
نشرَ أحدُ الأصدقاءِ في صفحتِهِ على إحدى المنصّاتِ الاجتماعيةِ، صورةً له في إحدى المدنِ الأوروبيةِ، يرفعُ رداءً يتّقي به المطر، ويُرسلُ رسالةً سعيدةً أنه خرجَ في رحلةٍ صيفيّةٍ ولم يتوقّع أن يصلَ به الأمرُ إلى شتاء.
لا شكّ أن صديقي سيعرِّجُ على شاطئٍ مَرِح، يغطسُ فيه ليغسلَ همَّهُ ويُغرقَ فيه متاعبَه، ويعودَ بعد أن تعمّدَ بالفرح.
لكنّا نحنُ، منْ بقينا في أحضانِ صيفٍ جافٍّ دبِقٍ، نتقلّبُ بينَ جناحَيِ الخُمولِ والغثيان، تُلاحقنا سياطُ الشمسِ إلى الظلّ، وتنفخُ نحونا هواءً ساخنًا. نُعاني التّعبَ، ويدفعُنا المللُ إلى مقاتلةِ البعوضِ الذي يطِنُّ حولنا هازئًا، ونَهربُ فزعًا أمامَ الكائناتِ الصغيرةِ التي تُطاردُنا بمرحٍ، طائرةً أو زاحفةً، تختفي ثمّ تظهرُ كمن يلعبُ معنا 'الغُمّيضة'، وأكبرُ ما نشعرُ به من نصرٍ، أن نرى جثثَ تلكَ الكائناتِ الصغيرةِ، ساكنةً، مشلولةً، قد سكنَها الموت.
هل يُثيرُ فيك موتُها أسئلةً وجوديّة؟ حولَ غايةِ الحياةِ أو عبثيّتِها، كما فعلتِ الكاتبةُ الفرنسيّةُ مارغريت دوراس، عندما راقبتْ ذبابةً تحتضر، وقفتْ تُراقبُها دقائقَ طويلة، حتى همدتْ حركتُها تمامًا.
أو مثلَ الشاعرةِ الأمريكيّةِ ماري أوليفر، التي لاحظتْ كيف اصطادتْ أنثى عنكبوت حشرةَ الجدجد، وتابعتْ سلوكَها، وقضتْ وقتًا طويلًا في دراستِها، بشكلٍ جدّيٍّ لا يقلُّ عن اهتمامِ باحث.
أما سألتَ نفسَك:
ماذا نرى حين نُحدّق في موتِ كائنٍ صغير؟ وما علاقةُ ذلك بالكتابة، والعُزلة، والوعي؟
دوراس: الذبابة كمرآةٍ للعزلةِ والكتابة
وُلِدتْ مارغريت دوراس عام 1914 في سايغون، في الهندِ الصينية (فيتنام)، تحتَ الحكمِ الاستعماري الفرنسي. عاشتْ طفولتَها في منطقةٍ ريفيّةٍ قربَ دلتا نهر ميكونغ، وهي بيئةٌ ستُغذّي لاحقًا كتاباتِها، خاصّةً روايتَها الشهيرة 'العاشق' (L’Amant)، حيثُ استلهمتْ من تجربتِها الشخصيّة حين كانت في الخامسةِ عشرة.
بعدَ عودتِها إلى فرنسا للدراسةِ الجامعيّة، انخرطتْ في المقاومةِ الفرنسيّة ضدَّ الاحتلالِ النازي، وشاركتْ في إنقاذِ زوجِها من أحدِ معسكراتِ الاعتقال الألمانية. عاشتْ حياةً شخصيّةً وعاطفيّةً صاخبة، وكتبتْ في السياسةِ والحياةِ والأدب، لكنّ ما شغَلَها بشدّةٍ لاحقًا لم يكنْ حدثًا سياسيًّا أو عاطفيًّا، بل موت ذبابة.
تسردُ مارغريت دوراس هذه الحادثةَ في كتابِها 'الكتابة' (Écrire)، وهو تأمُّلٌ فريدٌ في مفاهيمَ مثلَ العزلة، والخلق، والصمت، والموت. في فصلِه الأوّلِ الذي يحملُ نفسَ العنوان، لا تُعرّفُ الكتابةَ كفعلٍ، بل كحالةٍ داخليّةٍ، كطقسٍ يتمُّ فقط في عزلةٍ مطلقة. تقولُ إنّ منْ يكتبُ، لا بدَّ أن ينسحبَ من الحياة، أن يدخلَ 'بيتًا مُقفلاً' من الصّمت، لا يوجدُ فيه إلّا الطاولةُ والورقُ والظلّ.
اختارتْ دوراس العيشَ في منزلٍ منعزلٍ في قرية نوفل-أنتير قربَ باريس، وهو مكانٌ شبّهتْه ببيتٍ على حافّةِ العالم، حيثُ لا أحدَ يمرّ، ولا شيءَ يحدث. في هذا الصّمتِ الكاملِ، لاحظتْ شيئًا بسيطًا وعميقًا: ذبابةٌ تموتُ على زجاجِ النافذة.
تصفُ المشهدَ ببساطةٍ شديدةٍ، لكنها مثقلةٌ بالدلالة:
'كانت ذبابةٌ عالقةً على الزجاج، تُحاولُ أن تتحرّك، ولكنّها لا تقدر؛ يهزّها الحرّ، يمتصّ منه قوتَها. راقبتُها وهي تموت ببطءِ تحت ضوءِ الصيف. لم يكن هناك صوت، لا حركة. لم تفعل هي شيئًا، وأنا اكتفيتُ بالنظر. أحيانًا يظهر صوتٌ خافت، ثم يختفي، ثم توقّف كلّ شيء.'
لم تكن هذه المراقبةُ حدثًا عرضيًّا، بل تجربةً جوهريّةً في العُزلة، شعرتْ خلالها أنَّ الذبابةَ تُمثّلها — وحيدةً، صامتةً، تُقاومُ ما لا يمكنُ مقاومتُه. وكتبتْ بعدها واحدةً من أعنفِ جملِها:
'الوحدةُ تسيرُ دائمًا جنبًا إلى جنبٍ مع الجنون. أعلمُ هذا. لا يُرى الجنون، بل يُحسّ به أحيانًا فقط.'
وتختمُ الفصلَ بتشبيهٍ شعريٍّ يختزلُ معنى الكتابة:
'الكتابةُ تأتي كالرِّيح.
إنّها عاريةٌ، مصنوعةٌ من الحبر،
هي الشيءُ المكتوب، وتمضي كما لا يمضي شيءٌ آخر في الحياة،
لا شيءَ أكثر، سوى الحياةِ نفسِها.'
أوليفر: العنكبوتُ والجدجدُ كمدخلٍ للدهشة
ماري أوليفر، شاعرةٌ أمريكيّةٌ بارزة، وُلِدتْ عام 1935 في ولاية أوهايو، عُرفتْ بشعرِها الذي يتّسمُ بالبساطةِ والعمق، وتناولِها لموضوعاتِ الطبيعةِ، والحياة، والمشاعرِ الإنسانيّة. تأثرتْ حياتُها بتجاربَ مؤلمةٍ، مثل فقدانِ والدتِها، وعاشتْ علاقةً طويلةَ الأمد مع المصوّرةِ والكاتبة مولي مالوني، ما أضفى على كتاباتِها طابعًا تأمّليًّا وروحانيًّا جعلها من أبرزِ شعراءِ القرن العشرين.
كتبتْ أوليفر بأسلوبٍ مباشر، لكنها كانتْ تفتحُ من خلاله أبوابًا واسعةً للتأمّلِ والدَّهشة، مستلهمةً من العالمِ الطبيعيّ ما يجعلُ القارئَ يرى ما حولَه بعينٍ جديدة. في قصيدتِها الشهيرة 'الإوزّ البريّ' تقول:
أيًّا كنتَ، ومهما كنتَ وحيدًا،
فالعالمُ يَعرضُ نفسَهُ لمخيلتِك،
يُناديكَ مثل الإوزّ البريّ، بخشونتهِ وإثارتِه،
مكررًا مرارًا مكانكَ
في عائلةِ الأشياء.
في مقالةٍ بعنوان 'Swoon' (الإغماء)، تتأمّلُ أوليفر بعينِ الشاعرةِ لا في الكائناتِ الكبيرةِ أو المهيبة، بل في أكثرِها تواضعًا وصِغرًا: العنكبوت. لم تكن الملاحظةُ عابرةً، بل تحوّلتْ إلى علاقةِ تتبّعٍ ومراقبةٍ دقيقةٍ، تابعتْ فيها سلوكَ أنثى العنكبوت في رعايةِ أكياسِ البيض، وكيف انبثقتْ منها مخلوقاتٌ صغيرةٌ بالكاد تُرى، تنتشر وتبتعد كما تنتشر النجومُ في فضاءٍ مفتوح.
كان هناك مشهدٌ مركزيٌّ في النصّ:
حشرةُ الجدجد تعلقُ في شبكةٍ نُسِجتْ عندَ درجِ بيتِها. راقبتْه أوليفر وهو يُقاومُ مصيرَه ساعةً كاملة، يُحرّكُ رجليه، يُحاولُ الإفلات، دونَ جدوى. بعد توقّفِه عن الحركة، عادتْ بعد وقتٍ قصير لتُشاهدَ العنكبوتَ تغرزُ أطرافَها في جسدِ الفريسة، تُشلُّ حركتَه بهدوءٍ مُروّع، وتمتصُّ سوائلَه طيلةَ عشرين دقيقة تقريبًا.
لا تبحثُ أوليفر عن مغزى أخلاقيٍّ مباشر، رغم قسوةِ المشهد. كانت محادثتُها مع ذاتِها مدفوعةً بشيءٍ آخر: الفضولُ والدَّهشة. كلُّ تفصيلٍ، مهما بدا بسيطًا، هو مادّةٌ لتأمُّلٍ داخليٍّ، ولشعرٍ يتغذّى من الملاحظةِ العميقة، لا من المواعظِ الجاهزة.
هذا الوصفُ يُظهرُ أن أوليفر لا تكتفي بالمراقبة، بل تعيشُ الحدثَ وتتفاعلُ معه بصدق، يتأرجحُ بين دقّةِ العالِم، وحساسيةِ الشاعر. فكلُّ لحظةٍ صغيرةٍ تتحوّلُ في نصِّها إلى قصيدةٍ حيّة، تُوسّع رؤيتَنا للعالم، وتفتح لنا طرقًا أعمقَ للتواصل معه.
تقاطعُ المسارين: الوحدةُ والدَّهشةُ وجهان للتأمُّل
رغم اختلافِ السياقينِ الثقافيّ والأسلوبيّ، تتقاطعُ تجربةُ كلٍّ من مارغريت دوراس وماري أوليفر في لحظةٍ تأمّليةٍ نادرة، تنبعُ من وحدةٍ طوعيّة وتُفضي إلى دهشةٍ مؤلمة. كلاهما يضعُ كائنًا صغيرًا في قلبِ الملاحظة — ذبابةٌ تموتُ ببطءٍ عندَ دوراس، وجدجدٌ يُشلُّ ويموتُ في شبكةِ عنكبوتٍ عند أوليفر — لتفتحَ من خلاله بابًا على أسئلةٍ كبرى:
ما معنى أن نكونَ وحدنا؟
ما الذي يُعاشُ حين لا يحدثُ شيء؟
في نصِّها 'الكتابة'، تطرحُ دوراس أنَّ الكتابةَ لا تنبعُ من الحركة، بل من التوقّف، من الصّمت المُطبق، من مراقبةِ الموتِ كما يتسلّل بهدوءٍ عبرَ زجاجِ النافذة.
في نصِّها 'Swoon'، لا تكتفي أوليفر بوصف الحدث، بل تنصهرُ فيه، تُطيلُ النظرَ في فريسةٍ تُقاومُ مصيرَها ساعةً كاملةً قبل أن تُشلَّ وتُمتصّ، لا لتستخرجَ مغزى أخلاقيًّا، بل لتُثبت أنَّ الشعرَ ليس تعليمًا، بل اندهاشًا دائمًا.
الوحدةُ هنا ليست عجزًا، بل شرطٌ سابقٌ للخلق.
والدهشةُ ليست لحظةً عابرة، بل موقفٌ وجوديٌّ تجاهَ العالم،
تجعلُ من المألوفِ غريبًا، ومن التفاصيلِ الصغيرة مرآةً للكونِ بأكمله.
الخاتمة: ما الذي تتيحه لنا الوحدة؟
ليستْ كلُّ وحدةٍ جنونًا،
وليستْ كلُّ عزلةٍ تأمُّلًا.
فالفرقُ لا يكمنُ في الابتعادِ عن الناس،
بل في الطريقةِ التي ننظرُ بها إلى العالم:
هل نهربُ من الحياة؟ أم نغوصُ في تفاصيلِها؟
العزلةُ قد تكونُ هروبًا، وقد تكونُ كشفًا.
وقد تبدو اللحظةُ نفسُها متشابهةً من الخارج — شخصٌ جالسٌ في صمت،
يُراقبُ ذبابةً تموت أو عنكبوتًا يصطاد لكنَّ الفارقَ الجوهريَّ يكمنُ في الداخل:
في الانتباه، والدَّهشة، والانخراطِ الصادقِ مع ما هو كائن.
وهنا ينبثقُ سؤالٌ لا إجابةَ قاطعة له:
حين نُحدّقُ طويلًا في صمتِ كائنٍ يموت،
هل نكتبُ عنه لأننا خائفون من موتِنا؟
أم لأننا نندهشُ من الحياةِ في وجهِها الأخير؟
ذلك التوتّر بين الخوفِ والاندهاش،
بين النهايةِ والانكشاف،
هو ما يجعلُ من بعضِ لحظاتِ العزلة أكثرَ صدقًا من الحشود،
ومن بعضِ التأمّلات أوسعَ من أيّ معرفةٍ منظّمة.
لكن هناك أنواعًا من العزلة ليستْ اختياريّة، بل مفروضةٌ بالقوّة.
وهنا لا يعودُ الحديث عن عزلةِ تأمُّل، بل عن حصار.
فهل ما زالت العزلةُ اليوم تحتفظُ بطعمِها القديم؟
أم أن جيلَنا حُرِم منها؟
نحن لم نعد نتمتّعُ بالوحدةِ كما كانتْ الأجيالُ السابقة؛
فهناك أعينٌ في السماءِ ترصدُ كلّ حركة،
وآذانٌ إلكترونيّةٌ تلتقطُ كلَّ همسة.
أصبحتْ الوحدةُ بلا معنى تقريبًا، محاصَرةً بشبكاتِ الاتصالِ والمراقبة.
وهنا يبرزُ لفظٌ جديد: 'الحصار'.
فهل تُثيرُ كلمةُ 'حصار'، كما في 'حصار غزة'،
فضولَ سيّداتِ الحضارةِ الغربيّة؟
هل تجدُ فيه إحداهنّ ما يُدهشُ أو يُحرّكُ شيئًا في داخلِها،
كما فعلتْ ذبابةُ دوراس أو عنكبوتُ أوليفر؟
أم أنَّ إيقاعَ المأساةِ باتَ مألوفًا،
واهتزازَ أطرافِ الضحايا لا تلتقطُه لا عينٌ ولا قلب؟
ربما لم تَعُد الوحدةُ هي ما يُخيفُنا،
بل العجزُ عن أن نندهشَ
في عالمٍ تعوّدَ على الألم.
سعيد ذياب سليم