اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٤ تموز ٢٠٢٥
تتبيع لا تطبيع... وتجويع للتركيع #عاجل
كتب حلمي الأسمر *
مبدئياً، مصطلح 'التطبيع' غير صالح في وصف حالة العلاقة بين العدو الصهيوني والدول التي عقدت معه معاهدات سلام، فلا جلبت المعاهدات علاقاتٍ طبيعيةً، ولا يصلح أصلاً أن يقوم هذا النوع من العلاقات بين الأعداء، حتى ولو تعاهدوا فيما بينهم على إنهاء حالة حربٍ لم تكن 'فعلاً' قائمةً على الأغلب، فضلاً عن أن العدو نفسه يرفض، من حيث المبدأ، أن تقوم علاقاتٌ 'طبيعيةٌ' حقيقيّةٌ بينه وبين أي دولة عربية، بسبب طبيعته العدوانية التوسّعية وأيديولوجيته التوراتية التي باتت مسيطرة على مراكز صنع القرار فيه، والطامحة إلى توسيع رقعة الكيان لتمتدّ إلى أراضٍ بينه وبين أصحابها معاهدات تسمّى تجاوزاً معاهدات 'سلام'، وهي في كنهها مجرّد معاهدات هدنة طويلة، أو ربما معاهدات 'تأجيل' انفجار حالة الحرب. إلى هذا وذاك، ظلت تلك المعاهدات حبيسة الدائرة الرسمية لتلك الدول، ولم تتحوّل بالقطع إلى 'سلام دافئ' ليس لأن الشعوب العربية ترفض وجود الكيان أصلاً فقط، بل لأن الكيان نفسه غير مستعدّ لأن يكون غير عدواني تجاه الشعوب العربية، إلا إذا كانت 'تبعاً' له وفي حالة خضوع واستسلام تام لسطوته. من هنا، كان الأجدى والأصح أن تسمى معاهدات السلام تتبيعاً لا تطبيعاً، وهذا المصطلح ينطبق أكثر على الحالة التي يسعى الكيان لفرضها على الدول التي لم توقّع معه هذا النوع من المعاهدات بعد.
أكثر من هذا، ثمّة مسألة أكثر أهمية من كل ما قيل، أن الكيان مجبولٌ على عدم التزام أي معاهدة يوقّع عليها، إلا إذا حقّقت له هدفه المختبئ داخل نصوص أي معاهدة، وهي أن تكون كلمته العليا، ومصلحته هي الأولى بالرعاية، حتى لو اصطدمت مع كل النصوص التي وقّع عليها، وهو في هذا يحرص على وضع نصوص مبهمة في أي معاهدةٍ يفسّرها هو وفق ما يرى، من دون أي اهتمام بمصلحة الطرف الآخر. باختصار شديد، يعتقد قادة الكيان، وهم يوقّعون أي معاهدة، أنهم يوقّعون صك 'استسلام' لا سلام مع أي طرف عربي، ويترتّب على هذا البلد أو الجهة تلك أن تكون 'تبعاً' للكيان لا ندّاً له. والأمثلة هنا كثيرة، وقد تستعصي على الحصر. ولنا في اتفاقات أوسلو المثل 'الأعلى!' على ما نقول، فلم يطبق منها إلا ما يحقّق مصلحة الاحتلال، ويرسّخ سيطرته على كامل الأرض الفلسطينية، وحتى النصوص التي أخذت، على قدر صغير جداً، مصلحة الفلسطينيين، داستها جنازير دباباته وسحقتها سحقاً، ولم يبق من تلك الاتفاقات إلا اسمها!
وثمّة جانب آخر من سطوة مصلحة الاحتلال في الاتفاقات التي وقعت، وتلك التي ستوقّع، وهي اشتراطاته أن تخرج الأجيال العربية المتورطة معه في معاهدات 'تتبيع' من جلدها، فلا تتعلم في مناهجها الدراسية إلا ما يريد هو أن يستقر في وجدانها، ولو اقتضى الأمر حذف آياتٍ من القرآن الكريم وكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، خصوصاً التي تتحدّث عن اليهود وغدرهم ونقضهم المواثيق، وسوء أخلاقهم، وعدوانيتهم منذ بدء الرسالة المحمدية، فضلاً عن مسح أي نص قرآني أو حديث شريف عن الجهاد، فضلاً عن إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي وفق ما يعيد رسم صورة اليهودي بشكلٍ 'جميل' أو مجمل، كي تخرج أجيال عربية جديدة 'تابعة' بالكامل للكيانية الصهيونية بكل ما فيها من عدوانيةٍ وعنصريةٍ وإجرام، تحت بند 'التسامح' مع الآخر، والآخر هنا غير مستعدٍّ لأن يغيّر ولو قيد أنملة من مناهجه ولا العقائد الفاسدة التي يزرعها في وجدان أجياله الجديدة!
نتحدّث هنا عن حالة 'أسرلة' للمجال الحيوي الذي يعيش فيه الكيان، فلا جهاد ولا مقاومة ولا كرامة ولا سلاح حقيقياً رادعاً لعربي أو مسلم يعيش في دول 'الطوق' وما بعدها، وما بعد بعدها، فما بالك حين يكون الحديث عن سلاحٍ نوويٍّ مثلاً؟
من هنا يمكن لنا أن نفهم حالة الهستيريا التي أصابت الكيان بعد 'طوفان الأقصى'، الذي كنس كل ما خطّط له الكيان، بل كل ما حققه على الأرض، من تحويل 'الكيان' إلى مساحة يحرم الاقتراب منها بأي سوء، وبما يمكنه من 'فرض' حالة 'التتبيع' والاستسلام لمشيئته، فضلاً عن 'جدع أنفه' وإهدار 'كرامته' وتحويل الكيان برمته، بعد توحّشه غير المسبوق في ارتكاب جرائمه، إلى كيان مجرم بلا تأويل، منبوذ لدى جل شعوب الأرض، إن لم يكن كلهم. ومن هنا أيضاً يمكن أن نفهم عظمة الإنجاز التاريخي الذي حققه 'الطوفان'، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها ويدفعها أهله من تضحياتٍ جسام تستعصي على الحصر. أكثر من هذا، لم يزل هذا 'الطوفان' في حالة تفاعل وفاعلية كبرى، بعد أن استعصت عملية كسر أهله على العدو ومن وراءه ومن معه، من قوى التتبيع وما حولها. ومن هنا أيضاً، وللمرّة الثالثة، يمكن لنا أن نفهم حالة الالتفاف غير المسبوقة حول الكيان، من القاصي والداني في حربه على أهل 'الطوفان' ومحاولة محوهم عن وجه الأرض، بالتعبير الفعلي الفيزيائي، من دون أن يبذل أي طرف من جماعة التتبيع وداعميهم أي جهد فعلي لوقف حالة التوحّش الصهيوني، لأن المطلوب رؤية الراية البيضاء ترتفع من أرض 'الطوفان'، وليس أقلّ من هذا، وهو المستحيل بعينه. وفي هذا السياق تحديداً، نفهم حرب التجويع التي يشنها الكيان على غزّة، كل غزّة أملاً في تركيعها، بعد أن فشل في مواجهتها وكسر شوكتها عسكرياً، في جريمةٍ غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.
* المصدر: العربي الجديد