اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٧ تموز ٢٠٢٥
في زمن تُقصف فيه العواصم وتُمنع الدموع
الكابتن اسامة شقمان
في ليلةٍ بلا قمر، جلستُ أُحدِّق في الفراغ. لم يكن الفراغ أمامي فقط، بل كان في داخلي، كأن عقلي تحوّل إلى صحراء جرداء، جرفتها رياح اليأس من كل الجهات.
لم أكتب منذ ثلاثة أسابيع. لا لأن الحبر جفّ، بل لأن المعنى تبخّر. الكلمات كانت تتجمع على أطراف أصابعي، لكنها تسقط قبل أن تبلغ الورق، كجثثٍ لم تجد مأوى.
الغريب أنني لم أعجز عن الكتابة لأن لا شيء يُكتب عنه، بل لأن كل شيء يُصرخ في وجهنا، ومع ذلك... لا يسمع أحد.
في غزة، لم يعد الدمار خبرًا؛ صار روتينًا يوميًّا. الموت هناك لم يعد يُفجع؛ صار عادة. مجازر تُبثُّ على الهواء، على مرأى العيون، وبصوتٍ لم يعد يوقظ الضمير. أطفالٌ يحترقون، وأمهاتٌ تنادي، وأرضٌ تبتلع جثث ساكنيها من دون أن تسأل عن العدالة. فمَن يسمع؟ ومَن يرد؟ مَن يحاكم القاتل عندما يكون القاضي أخرسًا، والأمم المتحدة ورقة مبللة لا تصلح حتى لمسح الدم؟
حين قُصفت دمشق، لم أندهش. ليس لأن الأمر لا يستحق الدهشة، بل لأن الدهشة استُهلكت، حتى القهر أصبح مألوفًا. عاصمة تاريخ، تُقصف في وضح النهار بحجة 'حماية الجالية الدرزية'! أي مهزلة هذه؟ مَن منح هذا الكيان أن يُقرّر مَن يعيش ومَن يموت، ومتى يُقصف هذا الحي أو ذاك؟ وأين القانون الدولي؟ لا وجود له. فقط نصوص باردة تُستعمل كأدوات ديكور في حفلات النفاق السياسي.
ولعل الأدهى من كل ذلك، أن الصمت بات فضيلةً في زمن يُعاقب فيه الكلام. لم نعد نسكت لأننا جبناء، بل لأن الكلام نفسه صار بلا طائل. الحروف لا تردع الطائرات، ولا توقف المجازر، ولا تشبع جائعًا. ولكن، ماذا يتبقى للكاتب، إن لم يكن له الحق حتى في الحزن؟
هذا العصر لا يعترف بالروح، ولا يعترف بالحقيقة. إنه عصرٌ يصرخ فيه الضحايا، ويُطلب منهم أن يعتذروا عن صراخهم. يُقصف الطفل، ويُدان من ينعاه. يُدفن الجرح، ويُمنع النحيب. وفي منتصف هذا الجنون، نسأل أنفسنا: هل نحن أحياء؟ أم مجرد ظلال لأشخاص قرروا التوقف عن الشعور حتى لا ينكسروا؟
لم أكتب منذ أسابيع، لأنني شعرتُ أن الكلمات ماتت. لكنني الآن أكتب، لا لأُغيِّر العالم، بل لأشهد على انكساره. أكتب لأصرخ في وجه الصمت، لأقول إننا كنا هنا، وإننا رأينا، وإننا لم نغفر.
قد لا يسمعني أحد. وقد لا يغير قلمي شيئًا. لكن في زمنٍ كُتب فيه على الإنسان أن يُذبح على الهواء دون أن يُسأل القاتل، تصبح الكتابة فعل مقاومة.
حتى لو كانت مجرد همسة في العاصفة.
.